تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٣٥٧
المخاطبين يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الارتداد مع قطع النظر إلى ما يرد إليه، ولذا لم يقل - لو يردونكم - إلى الكفر، وجوز أن يكون حالا من فاعل (ود) واختار بعضهم أنه مفعول ثان - ليردونكم - على تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من لم يكفر حتى يرد إليه فحيتاج إلى التغليب كما في * (لتعودن في ملتنا) * (الأعراف: 88) على أن في ذلك يكون الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة، وفي قوله تعالى: * (من بعد) * مع أن الظاهر - عن - لأن الرد يستعمل بها تنصيص بحصول الإيمان لهم، وقيل: أورد متوسطا لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته، وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل: من بعده إيمانكم الراسخ، وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفي.
* (حسدا) * علة - لود - لا - ليردونكم - لأنهم يودون ارتدادهم مطلقا لا ارتدادهم المعلل بالحسد، وجوزوا أن يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر، وفيه ضعف لأن جعل المصدر حالا - كما قال أبو حيان - لا ينقاس. وقيل: يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل عليه المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى.
* (من عند أنفسهم) * متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها، وفيه إشارة إلى أن بلغ مبلغا متناهيا، وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم، وإما للوداد المفهوم من (ود) أي ودادا كائنا من عند أنفسهم وتشهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق، وجعله ظرفا لغوا معمولا - لود - أو (حسدا) كما نقل عن مكي يبعده أنهما لا يستعملان بكلمة (من) كما قاله ابن الشجري.
* (من بعد ما تبين لهم الحق) * بالنعوت المذكورة في التوراة والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين بذلك إنما كان لهم لا للجهال، ولعل من قال: إن الودادة من عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رياسة أحبارهم الذين اعتقدوهم واتخذوهم رؤساء، فالمراد من الكثير جميعهم من كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية يدعي أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت في الخذلان.
* (فاعفوا واصفحوا) * العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك التثريب والتأنيب وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر على أذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين.
* (حتى يأتي الله بأمره) * هو واحد الأوامر؛ والمراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * إلى * (وهم صاغرون) * (التوبة: 29) أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: واحد الأمور، والمراد به القيامة أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة، ومن الناس من فسر الصفح بالاعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال وغاية الإعراض إتيان الله تعالى أمره، وفسره بإسلام من أسلم منهم - كما قاله الكلبي - وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر على واحد الأوامر وواحد الأمور، وهو عند المحققين جمع بين الحقيقة والمجاز، وعن قتادة والسدي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الآية منسوخة بآية السيف، واستشكل
(٣٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 352 353 354 355 356 357 358 359 360 361 362 ... » »»