تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٢٠
وإن لم يبلغ هذا العدد. قال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر: بذراع الملك. وقال نوف البكالي وغيره: الذراع سبعون باعا، في كل باع كما بين مكة والكوفة، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هي. وقيل: بالذراع المعروف، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله. وقال ابن عباس: لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص. * (فاسلكوه) *: أي أدخلوه، كقوله: * (فسلكه ينابيع) *، والظاهر أنه يدخله في السلسلة، ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلا فيها مضغوطا حتى تعمه. وقيل: في الكلام قلب، والسلسلة تدخل في فمه وتخرج من دبره، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره، إلا إن دل الدليل الصحيح على خلافه. وقال الزمخشري: والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. ومعنى ثم: الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم، وما بينها وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة. انتهى. وقد تقدم أن من مذهبه الحصر في تقديم المعمول، وأما ثم فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية، وأنه أولا يؤخذ فيغل. ولما لم يعذب بالعجلة، صارت له استراحة، ثم جاء تصلية الجحيم، فكان ذلك أبلغ في عذابه، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلا، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولا معذبا في النار، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان، فيجد بذلك بعض تنفس. فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب، حيث صار لا حراك له ولا انتقال، وأنه يضيق عليه غاية، فهذا يصح فيه أن تكون ثم على موضوعها من المهلة الزمانية.
* (إنه كان لا يؤمن) *: بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله، وإنه تعليل مستأنف، كأن قائلا قال: لم يعذب هذا العذاب البليغ. وقيل: * (إنه كان لا يؤمن) *، وعطف * (ولا يحض) * على * (لا يؤمن) * داخل في العلة، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين، إذ جعل قرين الكفر، وهذا حكم ترك الحض، فكيف يكون ترك الإطعام؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين. وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه، إذ يستحق المسكين حقا في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار؛ وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم، وما أحسن ما قيل فيهم:
* على مكثريهم رزق من يعتريهم * وعند المقلين السماحة والبذل * وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير الرزق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ وقيل: هو منع الكفار. وقولهم: * (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) *، يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى، كما صرح به في قوله تعالى: * (لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين) *. * (فليس له اليوم هاهنا حميم) *: أي صديق ملاطف واد، * (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو) *. وقيل: قريب يدفع عنه. * (ولا طعام إلا من غسلين) *، قال ابن عباس: هو صديد أهل النار. وقال قتادة وابن زيد: هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه. وقال الضحاك والربيع: هو شجر يأكله أهل النار. وقيل: هو شيء يجري من أهل النار، يدل على هذا قوله في الغاشية: * (ليس لهم طعام إلا من ضريع) *، فهما شيء واحد أو متداخلان. قيل: ويجوز أن يكونا متباينين، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التي الآخر طعامها، وله خبر ليس. وقال المهدوي: ولا يصح أن يكون هاهنا، ولم يبين ما المانع من ذلك. وتبعه القرطبي في ذلك وقال: لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك لأن ثم طعاما غيره، وهاهنا متعلق بما في له من معنى الفعل. انتهى. وإذا كان ثم غيره من الطعام، وكان الأكل غير أكل آخر، صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين. وأما إن كان الضريع هو الغسلين، كما قال بعضهم، فلا تناقض، إذ المحصور في الآيتين هو شيء واحد، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره، وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا، كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر، وهو العامل في ههنا، وهو عامل معنوي، فلا يتقدم معموله عليه. فلو كان
(٣٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 325 ... » »»