تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣١٩
ثم الجحيم صلوه * ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين * فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون) *.
أما: حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض. ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجين من النار، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب. وقيل: لا يأخذه حتى يخرج من النار، وإيمانه أنيسه مدة العذاب. قيل: وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول: * (هاؤم اقرؤا كتابيه) *؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور؟ فلا يناسب دخول النار. وهاؤم إن كان مدلولها خذ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة، وإن كان مدلولها تعالوا، فهي متعدية إليه بواسطة إلى، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا. فالبصريون يعملون اقرؤا، والكوفيون يعملون هاؤم، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم. وقرأ الجمهور: * (كتابيه) *، و * (حسابيه) * في موضعيهما و * (ماليه) * و * (سلطانيه) *، وفي القارعة: * (* ماهية) * بإثبات هاء السكت وقفا ووصلا لمراعاة خط المصحف. وقرأ ابن محيصن: بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في * (* ماهية) * في القارعة؛ وابن أبي إسحاق والأعمش: بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف، وفتح الياء فيهن. وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله.
* (كتابيه إنى ظننت) *: أي أيقنت، ولو كان ظنا فيه تجويز لكان كفرا. * (فهو فى عيشة راضية) *: ذات رضا. وقال أبو عبيدة والفراء: راضية مرضية كقوله: * (من ماء دافق) *، أي مدفوق. * (فى جنة عالية) *: أي مكانا وقدرا. * (قطوفها) *: أي ما يجني منها، * (دانية) *: أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها. * (كلوا واشربوا) *: أي يقال، و * (هنيئا) *، تقدم الكلام عليه في أول النساء. وقال الزمخشري: هنيئا أكلا وشربا هنيئا، أو هنيتم هنيئا على المصدر. انتهى فقوله: أكلا وشربا هنيئا يظهر منه جعل هنيئا صفة لمصدرين، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك، أي أكلا هنيئا وشربا هنيئا. * (بما أسلفتم) *: أي قدمتم من العمل الصالح، * (فى الايام الخالية) *: يعني أيام الدنيا. وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع: أيام الصوم، أي بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. والظاهر العموم في قوله: * (بما أسلفتم) *: أي من الأعمال الصالحة.
* (فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه) *: لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه، تمنى أنه لم يعطه، وتمنى أنه لم يدر حسابه، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه، إذ كان عليه لا له. * (* يا ليتها) *: أي الموتة التي متها في الدنيا، * (حسابيه ياليتها كانت القاضية) *: أي القاطعة لأمري، فلم أبعث ولم أعذب؛ أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع؟ * (ما أغنى عنى ماليه) *: يجوز أمن يكون نفيا محضا، أخبر بذلك متأسفا على ماله حيث لم ينفعه؛ ويجوز أن يكون استفهاما وبخ به نفسه وقررها عليه. * (هلك عنى سلطانيه) *: أي حجتي، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي. وقال ابن زيد: يقول ذلك ملوك الدنيا. وكان عضد الدولة ابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله: * (هلك عنى سلطانيه) *.
* (خذوه) *: أي يقال للزبانية * (خذوه فغلوه) *: أي اجعلوا في عنقه غلا، * (ثم الجحيم صلوه) *، قال الزمخشري: ثم لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظمى، لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس. يقال: صلى النار وصلاه النار. انتهى، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر. وقد تكلمنا معه في ذلك عند قوله: * (إياك نعبد) *، وليس ما قاله مذهبا لسيبويه ولا لحذاق النحاة. وأما قوله: لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس، فهذا قول ابن زيد وهو مرجوح، والراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه: أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا، لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصا بالملوك، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة.
* (ثم فى سلسلة ذرعها) *: أي قياسها ومقدار طولها، * (سبعون ذراعا) *: يجوز أن يراد ظاهره من العدد، ويجوز أن يراد المبالغة في طولها
(٣١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 314 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 ... » »»