تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣١١
غيظا على قومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم. وقال ذو الرمة:
* وأنت من حب مي مضمر حزنا * عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم * وتقدمت مادة كظم في قوله: * (والكاظمين الغيظ) *. وقرأ الجمهور: * (تداركه) * ماضيا، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل. وقرأ عبد الله وابن عباس: تداركته بتاء التأنيث؛ وابن هرمز والحسن والأعمش: بشد الدال. قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك، والأصل في ذلك تتداركه، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله. وقال بعض المتأخرين: هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية، أي لولا أن كان يقال تتداركه، ومعناه: لولا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله * (لنبذ بالعراء) *، ونحوه قوله: * (فوجد فيها رجلين يقتتلان) *؛ وجواب * (لولا) * قوله: * (لنبذ بالعراء وهو مذموم) *، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم، كما قال: * (فنبذناه بالعراء) *، والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقا، بل بقيد الحال. وقيل: لنبذ بعراء القيامة مذموما، ويدل عليه * (فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون) *. ثم أخبر تعالى أنه * (اجتباه) *: أي اصطفاه، * (ونبيا من الصالحين) *: أي الأنبياء. وعن ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعة في قومه.
ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال: * (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك) *: أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة، أو ليهلكونك من قولهم: نظر إلي نظرا يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله. وقال الشاعر:
* يتعارضون إذا التقوا في موطن * نظرا يزل مواطن الأقدام * وقال الكلبي: ليزلقونك: ليصرفونك. وقرأ الجمهور: * (ليزلقونك) * بضم الياء من أزلق؛ ونافع: بفتحها من زلقت الرجل، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر، نحو شترت عينه بالكسر، وشترها الله بالفتح. وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى: ليزهقونك. وقيل: معنى * (ليزلقونك بأبصارهم) *: ليأخذونك بالعين، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد. قال ابن الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلا ثم تسقط طائفة أو عدة منها. قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأجابهم، وأنشد:
* قد كان قومك يحسبونك سيدا * وأخال أنك سيد معيون * أي: مصاب بالعين، فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم)، وأنزل عليه هذه الآية. قال قتادة: نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه عليه الصلاة والسلام. وقال الحسن: دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية. وقال القشيري: الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان، لا مع الكراهة والبغض، وقال: * (ويقولون إنه لمجنون) *. وقال القرطبي: ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك. انتهى. وقد يكون في المعين، وإن كان مبغضا عند العائن صفة يستحسنها العائن، فيعينه من تلك الصفة، لا سيما من تكون فيه صفات كمال. * (لما سمعوا الذكر) *: من يقول لما ظرف يكون العامل فيه * (ليزلقونك) *، وإن
(٣١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 306 307 308 309 310 311 312 313 314 315 316 ... » »»