تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٠٨
وأخلصوا. انتهى. وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال: أكان قولهم: * (إنا إلى ربنا راغبون) * إيمانا، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؟.
* (كذلك العذاب) *: هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم) في أمر قريش. قال ابن عطية: والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي * (كذلك العذاب) *: أي الذي نزل بقريش بغتة، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا. وقال كثير من المفسرين: العذاب النازل بقريش الممائل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود. انتهى. وقال الزمخشري: مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا. * (ولعذاب الاخرة) * أشد وأعظم منه. انتهى. وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هو أن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم. وأن قريشا حين خرجوا إلى بدر حلفوا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فقلب الله عليهم بأن قتلوا وأسروا. ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال: * (ولعذاب الاخرة أكبر) *.
قوله عز وجل: * (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم * أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون * أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذالك زعيم * أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين * يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون * فذرنى ومن يكذب بهاذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدى متين * أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم * فاجتباه ربه فجعله من الصالحين * وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين) *.
لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون، فقال: * (إن للمتقين) *: أي الكفر، * (جنات النعيم) *: أضافها إلى النعيم، لأن النعيم لا يفارقها، إذ ليس فيها إلا هو، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش: إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ، فنزلت: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) *. وقال مقاتل: قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة، وإلا فالمشاركة، فأجاب تعالى: * (أفنجعل) *: أي لا يتساوى المطيع والعاصي، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ. ثم التفت إليهم فقال: * (ما لكم) *، أي: أي شيء لكم فيما تزعمون؟ وهو استفهام إنكار عليهم. ثم قال: * (كيف تحكمون) *، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم، استفهم عن هيئة حكمهم. ففي قوله: * (ما لكم) * استفهام عن كينونة مبهمة، وفي * (كيف تحكمون) * استفهام عن هيئة حكمهم.
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال: * (أم لكم) *، أي: بل ألكم؟ * (كتاب) *، أي من عند الله، * (تدرسون) * أن ما تختارونه يكون لكم. وقرأ الجمهور: * (إن لكم) * بكسر الهمزة، فقيل هو استئناف قول على معنى: إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل: أن معمولة لتدرسون، أي تدرسون في الكتاب أن لكم، * (لما تخيرون) *: أي تختارون من النعيم، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة، قاله الزمخشري وبدأ به وقال: ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو، كقوله: * (وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على نوح) *. انتهى. وقرأ طلحة والضحاك: أن لكم بفتح الهمزة، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج: أإن لكم على الاستفهام.
* (أم لكم أيمان) *: أي أقسام علينا، * (بالغة) *: أي متناهية في التوكيد. يقال: لفلان علي يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو ببالغة: أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إلى ه. وقرأ الجمهور: * (بالغة) * بالرفع على الصفة، والحسن وزيد بن علي: بالنصب على الحال من الضمير المستكن
(٣٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 ... » »»