تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٠٣
* وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي * وفارقني جار بأربد نافع * أي: وهو أربد. انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وفي المنتخب ما ملخصه المعنى: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، أي حصول الصفة المحمودة، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك. ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم: إنه مجنون. * (وإن لك لاجرا) * في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله. * (وإنك لعلى خلق عظيم) *: هذا كالتفسير لما تقدم من قوله: * (بنعمة ربك) *، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء. انتهى. * (وإن لك لاجرا) *: أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب، * (غير ممنون) *: أي غير مقطوع، مننت الحبل: قطعته، وقال الشاعر:
عبس كواسب لا يمن طعامها أي لا يقطع. وقال مجاهد: غير محسوب. وقال الحسن: غير مكدر بالمن. وقال الضحاك: بغير عمل. وقيل: غير مقدر، وهو معنى قول مجاهد. وقال الزمخشري: أو غير ممنون عليك، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. * (وإنك لعلى خلق عظيم) *، قال ابن عباس ومجاهد: دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه. وقالت عائشة: إن خلقه كان القرآن. وقال علي: هو أدب القرآن. وقال قتادة: ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى. وقيل: سمي عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، من كرم السجية، ونزاهة القريحة، والملكة الجميلة، وجودة الضرائب؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك، وقال: (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق)، ووصى أبا ذر فقال: (وخالق الناس بخلق حسن). وعنه صلى الله عليه وسلم): (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن). وقال: (أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقا). والظاهر تعلق * (بأيكم المفتون) * بما قبله. وقال عثمان المازني: تم الكلام في قوله * (ويبصرون) *، ثم استأنف قوله: * (بأيكم المفتون) *. انتهى. فيكون قوله: * (بأيكم المفتون) * استفهاما يراد به الترداد بين أمرين، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما، ويعينه الوجود، وهو المؤمن، ليس بمفتون ولا به فتون. وإذا كان متعلقا بما قبله، وهو قول الجمهور، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر: الباء زائدة، والمعنى: أيكم المفتون؟ وزيدت الباء في المبتدأ، كما زيدت فيه في قوله: بحسبك درهم، أي حسبك. وقال الحسن والضحاك والأخفش: الباء ليست بزائدة، والمفتون بمعنى الفتنة، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنونا؟ وقال الأخفش أيضا: بأيكم فتن المفتون، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ففي قوله الأول جعل المفتون مصدرا، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف. وقال مجاهد والفراء: الباء بمعنى في، أي في أي فريق منكم النوع المفتون؟ انتهى. فالباء ظرفية، نحو: زيد بالبصرة، أي في البصرة، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية، بل هي سببية. وقال الزمخشري: المفتون: المجنون لأنه فتن، أي محن بالجنون، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن، وهم الفتان للفتاك منهم. انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة: في أيكم المفتون.
* (إن ربك هو أعلم) *: وعيد للضال، وهم المجانين على الحقيقة، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين. * (فلا تطع المكذبين) *: أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم. * (ودوا لو تدهن) *: لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن، أي ودوا ادهانكم
(٣٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 298 299 300 301 302 303 304 305 306 307 308 ... » »»