تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٩٢
أحسن عملا) *: أي أحسنكم عقلا وأشدكم خوفا وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا، وإن كان أقلكم تطوعا. وعن ابن عباس والحسن والثوري: أزهدكم في الدنيا. وقيل: كنى بالموت عن الدنيا، إذ هو واقع فيها، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها، فكأنه قال: هو الذي خلق الدنيا والآخرة، وصفهما بالمصدرين، وقدم الموت لأنه أهيب في النفوس. وليبلوكم متعلق بخلق. * (وإياكم * أحسن عملا) * مبتدأ وخبر، فقدر الحوفي قبلها فعلا تكون الجملة في موضع معموله، وهو معلق عنها تقديره: فينظر، وقدر ابن عطية فينظر أو فيعلم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين تعلق قوله: * (أيكم أحسن عملا) * بفعل البلوى؟ قلت: من حيث أنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملا، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملا. فإن قلت: أيسمى هذا تعليقا؟ قلت: لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به؟ ولو كان تعليقا لافترقت الحالتان، كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق، وعلمت زيدا منطلقا. انتهى. وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقا، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول، وجاءت بعده جملة استفهامية، أو بلام الابتداء، أو بحرف نفي، كانت الجملة معلقا عنها الفعل، وكانت في موضع نصب، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى: * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *، وانتصب * (طباقا) * على الوصف السبع، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقا لقولهم: النعل خصفها طبقا على طبق، وصف به على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف، أي ذا طباق؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب، والمعنى: بعضها فوق بعض.
وما ذكر من مواد هذه السماوات. فالأولى من موج مكفوف، والثانية من درة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه، يخبر أنه يشاهد السماوات على بعض أوصاف مما ذكرنا. * (من تفاوت) *، قال ابن عباس: من تفرق. وقال السدي: من عيب. وقال عطاء بن يسار: من عدم استواء. وقال ثعلب: أصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئا من الخلل. وقيل: من اضطراب. وقيل: من اعوجاج. وقيل: من تناقض. وقيل: من اختلاف. وقيل: من عدم التناسب والتفاوت، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص. قال بعض الأدباء:
* تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى * بهن اختلافا بل أتين على قدر * وقرأ الجمهور: * (من تفاوت) *، بألف مصدر تفاوت؛ وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش: بشد الواو، مصدر تفوت. وحكى أبو زيد عن العربي: تفاوتا بضم الواو وفتحها وكسرها، والفتح والكسر شاذان. والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور، بل كل جار على الإتقان. وقيل: المراد في * (خلق الرحمان) * السماوات فقط، والظاهر أن قوله تعالى: * (ما ترى) * استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله: * (طباقا) *، أصلها ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله: * (خلق الرحمان) * تعظيما لخلقهن وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب. انتهى. والخطاب في ترى لكل مخاطب، أو للرسول صلى الله عليه وسلم). ولما
(٢٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 287 288 289 290 291 292 293 294 295 296 297 ... » »»