تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٠٢
إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. انتهى. ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم، فإن كان علما فينبغي أن يجر، فإن كان مؤنثا منع الصرف، أو مذكرا صرف، وإن كان جنسا أعرب، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به. وقال ابن عطية: إذا كان اسما للدواة، فإما أن يكون لغة لبعض العرب، أو لفظة أعجمية عربت، قال الشاعر:
* إذا ما الشوق برح بي إليهم * ألقت النون بالدمع السجوم * فمن جعله البهموت، جعل القلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات، وجعل الضمير في * (يسطرون) * للملائكة. ومن قال: هو اسم، جعله القلم المتعارف بأيدي الناس؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في * (يسطرون) * للناس، فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة. انتهى. وقرأ الجمهور: * (ن) * بسكون النون وإدغامها في واو * (والقلم) * بغنة وقوم بغير غنة، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال: بكسر النون لالتقاء الساكنين؛ وسعيد بن جبير وعيسى: بخلاف عنه بفتحها، فاحتمل أن تكون حركة إعراب، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث، ويكون * (والقلم) * معطوفا عليه. واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين، وأوثر الفتح تخفيفا كأين، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية، والضمير في * (يسطرون) * عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم، فإما أن يراد بهم الحفظة، وإما أن يراد كل كاتب. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في * (يسطرون) * لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم. انتهى. فيكون كقوله: * (كظلمات فى بحر لجى) *: أي وكذي ظلمات، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله: * (يغشاه موج) *.
وجواب القسم: * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) *. ويظهر أن * (بنعمة ربك) * قسم اعترض به بين المحكوم على ه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عطية: * (بنعمة ربك) * اعتراض، كما تقول للإنسان: أنت بحمد الله فاضل. انتهى. ولم يبين ما تتعلق به الباء في * (بنعمت) *. وقال الزمخشري: يتعلق * (بمجنون) * منفيا، كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك: أنت بنعمة الله عاقل، مستويا في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك: ضرب زيد عمرا، وما ضرب زيد عمرا تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا، ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي، والمعنى: استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة. انتهى.
وما ذهب إليه الزمخشري من أن * (بنعمة ربك) * متعلق * (بمجنون) *، وأنه في موضع الحال، يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان: أحدهما: أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط، والآخر: أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك، تقول: ما زيد قائم مسرعا، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع. والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي لا قيام فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى الله عليه وسلم). وقيل معناه: ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي والحمد لله، ومنه قول لبيد:
(٣٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 297 298 299 300 301 302 303 304 305 306 307 ... » »»