تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٥٦
الزمخشري في قصة إبراهيم وابنه، وما جرى بينهما من الأقوال والأفعال فصولا، الله أعلم بصحتحها، يوقف عليها في كتابة. وأن مفسرة، أي * (قد صدقت) *. وقرأ زيد ابن علي: وناديناه قد صدقت، بحذف أن؛ وقرئ: صدقت، بتخفيف الدال. وقرأ فياض: الريا، بكسر الراء والإدغام وتصديق الرؤيا. قال الزمخشري: بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، لكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم. ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا؟ بل يسمى مطيعا ومجتهدا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم. وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل، ولا قبل أو ان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه. وقال ابن عطية: * (قد صدقت) *، يحتمل أن يريد يقلبك على معنى: كانت عندك رؤياك صادقة حقا من الله فعلمت بحسبها حين آمنت بها، واعتقدت صدقها. ويحتمل أن يريد: صدقت بقلبك ما حصل عن الرؤيا في نفسك، كأنه قال: قد وفيتها حقها من العمل. انتهى. * (إنا كذلك نجزى المحسنين) *: تعليل لتخويل ما خولهما الله من الفرج بعد الشدة، والظفر بالبغية بعد اليأس.
* (إن هذا) *: أي ما أمر به إبراهيم من ذبح ابنه، * (لهو البلاء المبين) *: أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون وغيرهم، أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. * (وفديناه بذبح) *، قال ابن عباس: هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل. وقال أيضا هو والحسن: فدي بوعل أهبط عليه من سرو. وقال الجمهور: كبش أبيض أقرن أقنى، ووصف بالعظم. قال مجاهد: لأنه متقبل يقينا. وقال عمرو بن عبيد: لأنه جرت السنة به، وصار دينا باقيا إلى آخر الدهر. وقال الحسن بن الفضل: لأنه كان من عند الله. وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل، بل عن التكوين. وقال ابن عباس، وابن جبير: عظمته كونه من كباش الجنة، رعى فيها أربعين خريفا. وفي قوله: * (وفديناه بذبح عظيم) * دليل على أن إبراهيم لم يذبح ابنه، وقد فدي. وقالت فرقة: وقع الذبح وقام بعد ذلك. قال ابن عطية: وهذا كذب صراح. وقالت فرقة: لم ير إبراهيم في منامه الإمرار بالشفرة فقط، فظن أنه ذبح مجهز، فنفذ لذلك. فلما وقع الذي رآه وقع النسخ، قال: ولا اختلاف، فإن إبراهيم عليه السلام، أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع. انتهى. والذي دل عليه القرآن أنه * (وتله للجبين) * فقط، ولم يأت في حديث صحيح أنه أمر الشفرة على حلق ابنه. * (وتركنا عليه) * إلى: * (المؤمنين) *، تقدم تفسير نظيره في آخر قصة نوح، قبل قصة إبراهيم هنا، وقال هنا كذلك دون إنا، اكتفاء بذكر ذلك قبل وبعد.
* (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) *: الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل، وأنه هو الذبيح لا إسحاق؛ وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن كعب القرظي، والشعبي، والحسن، ومجاهد، وجماعة من التابعين؛ واستدلوا بظاهره هذه الآيات وبقوله عليه السلام: أنا ابن الذبيحين، وقول الأعرابي له: يا ابن الذبيحين: فتبسم عليه السلام، يعني إسماعيل، وأباه عبد الله. وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بها. وفيما أوحي الله لموسى في حديث طويل. وأما إسماعيل، فإنه جاد بدم نفسه. وسأل عمر بن عبد العزيز يهوديا أسلم عن ذلك فقال: إن يهوديا ليعلم، لكهنم يحسدونكم معشر العرب، وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة. وسأل الأصمعي أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي، أين عزب عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة؟ انتهى. ووصفه تعالى بالصبر في قوله: * (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) *،
(٣٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 351 352 353 354 355 356 357 358 359 360 361 ... » »»