تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٥٥
وحي كاليقظة، وذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة. وشاوره بقوله: * (فانظر ماذا ترى) *، وإن كان حتما من الله ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم، ويصبره إن جزع، ويوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء، وتسكن نفسه لما لا بد منه، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس، وكان ما رآه في المنام ولم يكن في اليقظة، كرؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم) دخول المسجد الحرام، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق متظافرتان عليه. قيل: إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما بلغ حد السعي معه قيل له: أوف بنذرك. قيل: رآى ليلة التروية قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح، روى في ذلك من الصباح إلى الرواح. أمن الله هذا الحلم، فمن ثم سمي يوم التروية. فلما أمس رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحرة، فسمي يوم النحر.
وقرأ الجمهور: * (ترى) *، بفتح التاء والراء؛ وعبد الله، والأسود بن يزيد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، ومجاهد، وحمزة، والكسائي: بضم التاء وكسر الراء؛ والضحاك، والأعمش أيضا بضم التاء وفتح الراء. فالأول من الرأي، والثاني ماذا ترينيه وما تبديه لأنظر فيه؟ والثالث ما الذي يخيل إليك ويوقع في قلبك؟ وانظر معلقة، وماذا استفهام. فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي، فما مبتدأ، والفعل بعد ذا صلة. وإن كانت ذا مركبة، ففي موضع نصب بالفعل بعدها. والجملة، واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لانظر. ولما كان خطاب الأب * (أو بنى) *، على سبيل الترحم، قال: هو * (* يا أبت) *، على سبيل التعظيم والتوقير. * (قال ياأبت افعل ما تؤمر) *: أي ما تؤمره، حذفه وهو منصوب، وأصله ما تؤمر به، فحذف الحرف، واتصل الضمير منصوبا، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه. وقال الزمخشري: أو أمرك، على إضافة الصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله، وفي ذلك خلاف؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبني للمفعول، فيكون ما بعده مفعولا لم يسم فاعله، أم يكون ذلك؟ * (ستجدنى إن شاء الله من الصابرين) *: كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله، والرضا بما أمر الله.
* (فلما أسلما) *: أي لأمر الله، ويقال: استسلم وسلم بمعناه. وقرأ الجمهور: أسلما. وقرأ عبد الله، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وجعفر بن محمد، والأعمش، والثوري: سلما: أي فوضا إليه في قضائه وقدره. وقرئ: استسلما، ثلاث قراءات. وقال قتادة في أسلما: أسلم هذا ابنه، وأسلم هذا نفسه، فجعل أسلما متعديا، وغيره جعله لازما بمعنى: انقاذ الأمر الله وخضعا له. * (وتله للجبين) *: أي أوقعه على أحد جنبيه في الأرض مباشرا الأمر بصبر وجلد، وذلك عند الصخرة التي بمنى؛ وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى؛ وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. وجواب لما محذوف يقدر بعد * (وتله للجبين) *، أي أجز لنا أجرهما، قاله بعض البصريين؛ أو بعد * (الرءيا) *، أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما الله على ما أنعم به إلى ألفاظ كثيرة ذكرها الزمخشري على عادته في خطابته؛ أو قبل * (وتله) * تقديره: * (فلما أسلما وتله) *. قال ابن عطية: وهو قول الخليل وسيبويه، وهو عندهم كقول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحي وقال الكوفيون: الجواب مثبت، وهو: * (وناديناه) * على زيادة الواو. وقالت فرقة: هو * (وتله) * على زيادة الواو. وذكر
(٣٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 350 351 352 353 354 355 356 357 358 359 360 ... » »»