وهربوا منه إلى عيدهم، ولذلك قال: * (فتولوا عنه مدبرين) *، قال معناه ابن عباس، وتركوه في بيت الأصنام ففعل ما فعل. وقيل: كانوا أهل رعاية وفلاحة، وكانوا يحتاجون إلى علم النجوم. وقيل: أرسل إليهم ملكهم أن غدا عيدنا، فاحضر معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن يطلع مع سقمي. وقيل: معنى * (فنظر نظرة فى النجوم) *، أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم، ومعنى: * (فتولوا عنه مدبرين) *، أي لكفرهم به واحتقارهم له، وقوله: * (إنى سقيم) *، من المعاريض، عرض أنه يسقم في المآل، أي يشارف السقم. قيل: وهو الطاعون، وكان أغلب، وفهموا منه أنه ملتبس بالسقم، وابن آدم لا بد أن يسقم، والمثل: كفى بالسلامة داء. قال الشاعر:
* فدعوت ربي بالسلامة جاهدا * ليصحني فإذا السلامة داء * ومات رجل فجأة، فاكتنف عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟ * (فراغ إلىءالهتهم) *: أي أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله: * (أين شركائى) *، وعرض الأكل عليها. واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء، لكونها منحطة عن رتبة عابديها، إذ هم يأكلون وينطقون. وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاما، ويعتقدون أنها تصيب منه شيئا، وإنما يأكله خدمتها. * (فراغ عليهم ضربا باليمين) *: أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا، فهو مصدر في موضع الحال، أو يضربهم ضربا، فهو مصدر فعل محذوف، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم، وباليمين: أي يمين يديه. قال ابن عباس: لأنها أقوى يديه أو بقوته، لأنه قيل: كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس. وقيل: سبب الحلف الذي هو: * (وتالله لاكيدن أصنامكم) *.
وقرأ الجمهور: * (يزفون) *، بفتح الياء، من زف: أسرع، أو من زفاف العروس، وهو التمهل في المشية، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم. وقرأ حمزة، ومجاهد، وابن وثاب، والأعمش: بضم الياء، من أزف: دخل في الزفيف، فهي للتعدي، قاله الأصمعي. وقرأ مجاهد أيضا، وعبد الله بن يزيد، والضحاك، ويحيى بن عبد الرحمن المقري، وابن أبي عبلة: يزفون مضارع زف بمعنى أسرع. وقال الكسائي، والفراء: لا نعرفها بمعنى زف. وقال مجاهد: الوزيف: السيلان. وقرئ: يزفون مبنيا للمفعول. وقرئ: يزفون بسكون الزاي، من زفاه إذا حداه، فكان بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه. وبين قوله: * (فراغ عليهم ضربا باليمين) * وبين قوله: * (فأقبلوا إليه يزفون) * جمل محذوفة هي مذكورة في سورة اقترب، ولا تعارض بين قوله: * (فأقبلوا إليه يزفون) * وبين سؤالهم * (من فعل هاذا بئالهتنا) *، وأخبار من عرض بأنه إبراهيم كان يذكر أصنامهم، لأن هذا الإقبال كان يقتضي تلك الجمل المحذوفة، أي فأقبلوا إليه، أي إلى الإنكار عليه في كسر أصنامهم وتأنيبه على ذلك. وليس هذا الإقبال من عندهم، بل بعد مجيئهم من عندهم جرت تلك المفاوضات المذكورة في سورة اقترب.
واستسلف الزمخشري في كلامه أشياء لم تتضمنها الآيات، صارت الآيات عنده بها كالمتناقضة. قال، حيث ذكر ههنا: إنهم أدبروا عنه خيفة العدوي، فلما أبصروه يكسر أصنامهم، أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويقعوا به. وذكرتم أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر. ففي إحداهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخرى أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. انتهى. ما أبدى من التناقض، وليس في الآيات ما يدل على أنهم أبصروه يكسرهم، فيكون فيه كالتناقض. ولما قرر أنه كالتناقض قال: قلت فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية من عندهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة، اشمأزوا من ذلك وسألوا من فعل هذا بها؟ لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم: سمعنا فتى يذكرهم