واحتج عليهم بقوله (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) أي: وهم على هدى من الله. أمرهم أولا باتباع المرسلين. أي: هم رسل الله إليكم، فاتبعوهم. ثم أمرهم ثانيا بجملة جامعة في الترغيب في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنياهم شيء، وفي كونهم يهتدون بهداهم فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة. وقد أجاز بعض النحويين في (من) أن تكون بدلا من (المرسلين) ظهر فيه العامل كما ظهر فيه إذا كان حرف جر كقوله تعالى: * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم) * [الزخرف: 33] والجمهور لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب بدلا، بل يجعلون ذلك مخصوصا بحرف الجر، وإذا كان الرافع والناصب سموا ذلك بالتتبيع لا بالبدل، وفي قوله (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) دليل على نقص من يأخذ أجرا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة كالصلاة. ولما أمرهم باتباع المرسلين أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله فأبرزه في صورة نصحه لنفسه، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم، ولأنه أدخل في امحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا مل يريد لنفسه فوضع قوله (ومالي لا أعبد الذي فطرني) موضع (ومالكم لا تعبدون الذي فطركم، ولذلك قال (وإليه ترجعون) ولولا أنه قصد ذلك لقال وإليه أرجع. ثم أتبع الكلام كذلك مخاطبا لنفسه، فقال (أأتخذ من دونه ى لهة) قاصرة عن كل شيء لا تنفع ولا تضر، فإن أرادكم الله بضر وشفعت لكم لم تنفع شفاعتهم، ولم يقدروا على إنقاذكم فيه. أولا بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع، ثم ثانيا بانتفاء القدرة فعبر بانتفاء الإنقاذ عنه إذ هو نتيجته. وفتح ياء المتكلم في (يردني) مع طلحة السمان. كذا في كتاب ابن عطية. وفي كتاب ابن خالوية طلحة بن مطرف، وعيسى الهمداني، وأبو جعفر، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو. وقال الزمخشري: ' وقرئ (إن يردني الرحمن بضر) بمعنى ان يجعلني موردا للضر. انتهى. وهذا والله أعلم رأي في كتب القراءات (يردني) بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ونصب به اثنين. والذي في كتب القراء الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطا ونطقا لالتقاء الساكنين. قال في كتاب ابن خالوية: ' بفتح ياء الإضافة '، وقال في اللوامح: (إن يردني الرحمن) بالفتح وهو أصل الياء عند البصرية، ولكن هذه محذوفة يعني البصرية. أي المثبتة بالخط البربري بالبصر لكونها مكتوبة بخلاف المحذوفة خطا ولفظا فلا ترى بالبصر '. (إني إذا) إن لم أعبد الذي فطرني واتخذت آلهة من دونه في حيرة واضحة لكل ذي عقل صحيح. ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق فقال مخاطبا لقومه (إني آمنت بربكم) أي: الذي كفرتم به (فاسمعون) أي: اسمعوا قولي وأطيعون. فقد نبهتكم على الحق، وأن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم، وإليه مرجعكم، والظاهر: أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو وهو لقومه. والأمر على جهة المبالغة والتنبيه، قاله ابن عباس وكعب ووهب. وقيل: خاطب بقوله (فاسمعون) الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم. وقيل: الخطاب في (بربكم) وفي (فاسمعون) للرسل لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال ذلك، أي: اسمعوا إيماني واشهدوا لي به. (قيل ادخل الجنة) ظاهرة: أنه أمر حقيقي. وقيل: معناه وجبت لك الجنة فهو خبر بأنه قد استحق دخولها، ولا يكون إلا بعد البعث, ولم يأت في القرآن أنه قتل فقال الحسن: ' لما أراد قومه قتله رفعه الله غلى السماء فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماوات وهلاك الجنة فإذا أعاد الله الجنة دخلها '. وقيل: لما قال ذلك رفعوه إلى الملك فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه فوثبوا عليه فقتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في
(٣١٥)