تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣١١
غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه. (لقد حق القول على أكثرهم) المشهور أن القول: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وقيل: لقد سبق في علمه وجوب العذاب، وقيل: حق. القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه، فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك. والظاهر أن قوله * (غنا دجعلنا في أعناقهم أغلالا) * لآية هو حقيقة لا استعارة. لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. قال ابن عطية: ' وقوله * (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * يضعف هذا، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله '. انتهى. ولا يضعف هذا. ألا ترى إلى قوله: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا) * [الإسراء: 97] ووقوله: * (قال رب لم حشرتني أعمى) * [طه: 125] وإما أن يكون قوله: * (فبصرك اليوم حديد) * [ق: 22] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره. وقال الجمهور ذلك استعارة. قال ابن عباس وابن إسحاق: ' استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء، جعل الله هذا لهم مثلا في كفه إياهم عنه ومنعهم من أذاه حين بيتوه ' وقال الضحاك والفراء: ' استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله، كما قال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * [الإسراء: 29]. وقال عكرمة: ' نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم، وفي غير ذلك من المواطن، فمنعه الله ' وهذا قريب من ابن عباس، فروي: ' أن أبا جهل حمل حجرا ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق فما فكوه إلا بجهد فأخذ آخر، فلما دنا الرسول طمس الله بصره فلم يره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه '. فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة. ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل فنسب ذلك إلى الجمع. وقالت فرقة: استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه. قال ابن عطية: ' وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم يؤمنون لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من منع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلولين '. انتهى. وقال الزمخشري: ' مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا خلفهم في أن لا تأمل لهم، ولا يبصرون أنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى '. انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. ألا ترى إلى قول أهل السنة: استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان. وقول الزمخشري: ' ومثل تصميمهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله '. والغل: ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف، والتضييق، والتعذيب، والأسر، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل، والظاهر: عود الضمير في (فهي) إلى الأغلال، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها. قال ابن عطية: ' هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان. والذقن: مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء، وذلك هو الإقماح. وهو نحو الإقناع في الهيئة. وقال الزمخشري: الإغلال، وأصله إلى الأذقان مكروزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفية تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء رأسه ويوطىء فداله فلا يزال مقمحا '. انتهى وقال الفراء: ' القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه '. وقال الزجاج نحوه، قال: ' يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو '. وقال أبو عبيدة: ' قمح قموحا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح. ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها:
* ونحن على جوانبها قعود * نغض الطرف كالإبل القماح *
(٣١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 306 307 308 309 310 311 312 313 314 315 316 ... » »»