الصيحة لم يتأخر. وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم كنار خمدت بعد توقدها. ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبوية. وهو منادى منكور على قراءة الجمهور. وقرأ أبي وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك ومجاهد والحسن (يا حسرة العباد) على الإضافة، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم. ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم لما فاتهم من أتباع الرسل حين أحضروا للعذاب، وطباع البشر تتأثر عند معانيه عذاب غيرهم وتتحسر عليهم. وقرأ أبو الزناد وعبد الله بن ذكوان المدني وابن هرمز وابن جندب (يا حسره على العباد) بسكون الهاء في الحالين. حمل فيه الوصل على الوقف. ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهة كالتأوة ثم وصلوا على تلك الحال، قاله صاحب اللوامح، وقال بانب خالوية ' (يا حسرة على العباد) بغير تنوين قاله ابن عباس '. انتهى ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء كما اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه. وقد قرىء (يا حسرتا) بالألف أي: يا حسرتي. ويكون من الله على سبيل الآستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم وفرط إنكاره وتعجيبه منه. والظاهر: أن العباد هم مكذبو الرسل تحسرت عليهم الملائكة. قاله الضحاك، وقال الضحاك أيضا: ' المعنى. يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم ' وقال ا [و العالية: ' المراد بالعباد: الرسل الثلاثة. وكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم. قال ابن عطية: ' وقوله (ما يأتيهم) الآية بدفع هذا التأويل '. انتهى قال الزجاج: ' الحسرة: أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيرا '. وقيل: المنادى محذوف. وانتصب (حسرة) على المصدر. أي: يا هؤلاء تحسروا حسرة. وقيل: (يا حسرة على العباد) من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لما وثب القوم لقتله. وقيل: هو من قول الرسل الثلاثة، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل، وحل بهم العذاب، قالوا يا حسرة على هؤلاء، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا '. انتهى. فالألف واللام للعهد إذا قلنا: إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه، وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم. والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين. وتلخص: أن المتحسر الملائكة، أو الله تعالى، أو المؤمنون، أو الرسل الثلاثة، أو ذلك الرجل. أقوال (ما يأتيهم) إلى آخر الآية. تمثيل لقريش، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله (ألم يروا كم أهلكنا)، قال ابن عطية: ' و (كم) هنا خبرية و (أنهم) بدل منها، والرؤية رؤية البصر '. انتهى. فهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب ب (أهلكنا) ولا يسوغ فيها، إلا ذلك. وإذا كان كذلك امتنع لأن يكون (أنهم) بدل منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت (أهلكنا) على (أنهم) لم يصح. ألا ترى أنك لو قلت. أهلكنا انتفاء رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون. لم يكن كلاما، لكن ابن عطية توهم أن (يروا) مفعوله (كم) فتوهم أن قولهم (أنهم لا يرجعون) بدل لأنه يسوغ أن يتسلط عليه، فتقول: ألم يروا أنهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية. وقال الزجاج: ' هو بدل من الجملة. والمعنى: ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي '. وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء، لأنه ليس بدلا صناعيا. وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو. وقال أبو البقاء: ' أنهم إليهم انتهى. وليس بشيء، لأن (كم) ليس بمعمول ل (يروا) ونقل عن الفراء أنه يعمل (يروا) في الجملتين من غير إبدال وقولهم في الجملتين تجوز لأن (أنهم) وما بعده ليس بجملة ولم يبين كيفية هذا العمل. وقال الزمخشري: (ألم يروا) ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في (كم) لا يعمل فيها عامل قبلها، كانت للاستفاهم أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناها نافذ في الجملة. كما نفذ في قولك: ألم يروا أن زيدا لمنطلق. وإن لم تعمل في لفظه و (أنهم إليهم لا يرجعون) بدل من (أهلكنا) على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين
(٣١٨)