تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٦٢
لكنم. وقال قتادة: كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشر في أمان، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه، وكان المسافر لا يأخذ زادا ولا سقاء مما بسط الله لم من النعم. وقال الزمخشري: * (سيروا فيها) *، إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات؛ أو سيروا فيا آمنين ولا تخافون، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياما وليالي؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين. انتهى. وقدم الليالي، لأنها مظنة الخوف لمن قال: ومن عليهم بالأمن، حتى يساوي الليل النهار في ذلك.
ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، كما فعلت بنو إسرائيل، وقالوا: لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا: * (ربنا باعد بين أسفارنا) *. وقرأ جمهور السبعة: ربنا بالنصب على النداء، باعد: طلب؛ وابن كثير، وأبو عمرو، وهشام: كذلك، إلا أنهم شددوا العين؛ وابن عباس، وابن الحنفية، وعمرو بن فائد: ربنا رفعا، بعد فعلا ماضيا مشدد العين؛ وابن عباس أيضا، وابن الحنفية أيضا؛ وأبو رجاء، والحسن، ويعقوب، وأبو حاتم، وزيد بن علي، وابن يعمر أيضا؛ وأبو صالح، وابن أبي ليلى، والكلبي، ومحمد بن علي، وسلام، وأبو حيوة: كذلك، إلا أنه بألف بين الباء والعين؛ وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين، وابن الحنفية أيضا، وسفيان بن حسين، وابن السميفع: ربنا بالنصب، بعد بضم العين فعلا ماضيا بين بالنصب، إلا سعيدا منهم، فضم نون بين جعله فاعلا، ومن نصب، فالفاعل ضمير يعود على السير، أي أبعد السير بين أسفارنا، فمن نصب ربنا جعله نداء، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا منهم وبطرا وإن جاء بعد فعلا ماضيا كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها أولا، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضيا، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار. ومن قرأ باعد، أو بعد بالألف والتشديد، فبين مفعول، به لأنهما فعلان متعديان، وليس بين ظرفا. ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسما؟ * (فكذلك) * إذا نصب وقرئ بعد مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر: بين سفرنا مفردا؛ والجمهور: بالجمع. * (وظلموا أنفسهم) *: عطف على * (فقالوا) *. وقال الكلبي: هو حال، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل. * (فجعلناهم أحاديث) *: أي عظاة وعبرا يتحدث بهم ويتمثل. وقيل: لم يبق منهم إلا الحديث، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث. * (ومزقناهم كل ممزق) *: أي تفريفا، اتخذه الناس مثلا مضروبا، فقال كثير:
* أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم * فلم يحل للعينين بعدك منظر وقال قتادة: فرقناهم بالتباعد. وقال ابن سلام: جعلناهم ترابا تذروه الرياح. وقال الزمخشري: غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان؛ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة، وأسد بالبحرين، وخزاعة بتهامة. وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل، فلما جاء السيل على مأرب، وهو اسم بلدهم، تيامن منهم ستة قبائل، أي تبددت في بلاد اليمن: كندة والأزد والسفر ومذ حج وأنمار، التي منها بجيلة وخثعم، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول؛ وتشاءمت أربعة: لخم وجذام وغسان وخزاعة، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة، وهم الأوس والخزرج، ومنها عاملة وغير ذلك.
* * (إن فى ذلك لايات) *: أي في قصص هؤلاء لآية: أي علامة. * (لكل صبار) *، عن المعاصي وعلى الطاعات. * (شكور) *، للنعم. والظاهر أن الضمير في * (عليهم) * عائد على من قبله من أهل سبأ، وقيل: هو لبني آدم. وقرأ ابن عباس، وقتادة، وطلحة، والأعمش، وزيد بن علي، والكوفيون: * (صدق) * بتشديد الدال، وانتصب * (ظنه) * على أنه مفعول بصدق، والمعنى: وجد ظنه صادقا، أي ظن شيئا فوقع ما ظن. وقرأ باقي السبعة: بالتخفيف، فانتصب ظنه على المصدر، أي يظن ظنا، أو على إسقاط الحرف، أي في ظنه، أو على المفعول به نحو قولهم: أخطأت ظني، وأصبت
(٢٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 257 258 259 260 261 262 263 264 265 266 267 ... » »»