تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٤٣
هارون وقتله. أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول: إن موسى زنى بها، أو ما نسبوه إليه من السحر والجنون، أقوال.
* (مما قالوا) *: أي من وصم ما قالوا، وما موصولة أو مصدرية. وقرأ الجمهور: * (وكان عند الله) *: الظرف معمول لوجيها، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى، تميط عنه الأذى وتدفع التهم. وقرأ عبد الله، والأعمش، وأبو حيوة: عبد من العبودية، لله جر بلام الجر، وعبدا خبر كان، ووجيها صفة له. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ: وكان عبد الله، على قراءة ابن مسعود. قال ابن زيد: * (وجيها) *: مقبولا. وقال الحسن: مستجاب الدعوة، ما سأل شيئا إلا أعطي، إلا الرؤية في الدنيا. وقال قطرب: رفيع القدر؛ وقيل: وجاهته أنه كلمة ولقبه كليم الله. والسديد: تقدم شرحه في أوائل النساء. وقال ابن عباس: هنا صوابا. وقال مقاتل، وقتادة: سديدا في شأن زيد وزينب والرسول. وقال ابن عباس، وعكرمة أيضا: لا إله إلا الله، وقيل: ما يوافق ظاهره باطنه؛ وقيل: ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض؛ وقيل: السديد يعم الخيرات. ورتب على القول السديد: صلاح الأعمال وغفران الدنوب. قال الزمخشري: وهذه الآية مقررة للتي قبلها. بنيت تلك على النهي عما يؤدي به رسول الله، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى، واتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى، وهو كلام حسن.
* (إنا عرضنا الامانة) *: لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول، ورتب على الطاعة ما رتب، بين أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم، فقال: * (إنا عرضنا الامانة) *، تعظيما الأمر التكليف. والأمانة: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا. والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، ولذلك قال أبي بن كعب: من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، والظاهر عرض الإمانة على هذه المخلوقات العظام، وهي الأوامر والنواهي، فتثاب إن أحسنت، وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها، وهذا غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام، وحن الجذع إليه، وكلمته الذراع، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة.
قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهما وتمييزا، فخيرت في الحمل، وذكر الجبال، مع أنها مع الأرض، لزيادة قوتها وصلابتها، تعظيما للأمر. وقال ابن الأنباري: عرضت بمسمع من آدم، عليه الصلاة والسلام، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه، فيتجاسر على الحمل غيره، ويظهر فضله على الخلائق، حرصا على العبودية، وتشريفا على البرية بعلو الهمة. وقيل: هو مجاز، فقيل: من مجاز الحذف، أي على من فيها من الملائكة، وقيل: من باب التمثيل.
قال الزمخشري: إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى محمله والاستقلال به، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته. * (إنه كان ظلوما جهولا) *، حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها. ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. من ذلك قول العرب: لو قيل للشحم أين تذهب لقيل: أسوي العوج. وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات وتصور مقالة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه؛ فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.
فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، فليس كذلك ما في الآية. فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال
(٢٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 238 239 240 241 242 243 244 245 246 247 248 ... » »»