تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٩٣
جاء به القرآن على الإنذار، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعا لهم، ولأنه إذا ذكر الإنذار، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به، فلعل ذلك الفكر يكون سببا لهدايته. و * (لعلهم يهتدون) *: ترجية من رسول الله، كما كان في قوله: * (لعله يتذكر أو يخشى) *، من موسى وهارون. قال الزمخشري: وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة. انتهى. يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي، ومعناه: إرادة اهتدائهم، وهذه نزغة اعتزالية، لأنه عندهم أن يرد هداية العبد، فلا يقع ما يريد، ويقع ما يريد العبد، تعالى الله عن ذلك. ولما بين تعالى أمر الرسالة، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم. وتقدم الكلام على * (في ستة أيام) * في الأعراف. * (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) *: أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصرا وشفيعا. * (أفلا تتذكرون) * موجد هذا العالم، فتعبدوه وترفضوا ما سواه؟
* (يدبر الامر) *، الأمر: واحد الأمور. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، والضحاك: ينفذ الله قضاءه بجيمع ما يشاؤه. * (ثم يعرج إليه) *: أي يصعد، خبر ذلك * (فى يوم) * من أيام الدنيا، * (مقداره) *: أن لو سير فيه السير المعروف من البشر * (ألف سنة) *، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وقال مجاهد أيضا: الضمير في مقداره عائد على التدبير، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر. وقال مجاهد أيضا: يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا، وهو اليوم عنده، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها. فالمعنى: أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخر، لأن عاقبة الأمور إليه. وقيل: المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فينزل القضاء والقدر، ثم تعرج إليه يوم القيامة، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم، حيث ينقطع أمر الأمراء، أو أحكام الحكام، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة، وهو على الكفار قدر خسمين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. قال الزمخشري: وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة، ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه، إلا في مدة متطاولة، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره: * (قليلا ما تشكرون) *. انتهى.
وقيل: يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب، وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة. والضمير في * (إليه) * عائد إلى السماء، لأنها تذكر؛ وقيل: إلى الله. وقال عبد الله بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل للرياح، والجنود وميكائيل للقطر والماء، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم. وقيل: العرش موضع التدبير، وما دونه موضع التفصيل، وما دون السماوات موضع التعريف. وقال السدي: الأمر: الوحي. وقال مقاتل: القضاء. وقال غيرهما: أمر الدنيا. قال الزجاج: تقول عرجت في السلم أعرج، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج. وقرأ ابن أبي عبلة: * (يعرج) * مبنيا للمفعول؛ والجمهور: مبنيا للفاعل. قال أبو عبد الله الرازي: وفي هذا لطيفة، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك؛ وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله: * (يدبر الامر) *، والروح من عالم الأمر، كما قال: * (قل الروح من أمر ربى) *، وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان. والمراد دوام النفاد، كما يقال في العرف: طال زمان فلان، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة. فأشار إلى عظمة الملك بالمكان، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه، والزمان بحكمه وأمره. انتهى. وهو كلام ليس جاريا على فهم العرب. وقرأ الجمهور: * (مما تعدون) *، بتاء الخطاب. وقرأ السلمي، وابن وثاب، والأعمش، والحسن: بياء الغيبة، بخلاف عن الحسن. وقرأ جناح بن حبيش:
(١٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 188 189 190 191 192 193 194 195 196 197 198 ... » »»