تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٩٧
ما عقبه به من قوله: * (فذوقوا بما نسيتم) *؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعني: أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها. ثم قال: * (إنا نسيناكم) * على المقابلة: أي جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، قاله ابن عباس وغيره، أي تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. انتهى. وقوله: على طريق الإلجاء والقسر، هو قول المعتزلة. وقالت الإمامية: يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله هداية الكل إليها. قالوا: بل الواجب هداية المعصومين؛ فأما من له ذنب، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى. و * (هاذا) *: صفة ليومكم، ومفعول * (فذوقوا) * محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم * (لقاء يومكم هاذا) *، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله: * (إنا نسيناكم) *، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.
* (وإنما * يؤمن بئاياتنا) *: أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى، من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير، وقول الهجر، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن. وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع. وروي عن ابن جريج: المسجد مكان الركوع، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع، واستدل بقوله: * (وخر راكعا وأناب) *. * (تتجافى جنوبهم) *: أي ترتفع وتتنحى، يقال: جفا الرجل الموضع: تركه. قال عبد الله بن رواحة:
* نبي تجافى جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع * وقال الزجاج والرماني: التجافي: التنحي إلى جهة فوق. والمضاجع: أماكن الاتكاء للنوم، الواحد مضجع، أي هم منتبهون لا يعرفون نوما. وقال الجمهور: المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم. وفي الحديث، ذكر قيام الليل، ثم استشهد بالآية، يعني الرسول. وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك: تجافي الجنب: هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة. وقال الحسن: هو التهجد؛ وقال أيضا: هو وعطاء: هو العتمة. وفي الترمذي، عن أنس: نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال قتادة، وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والشعاء، * (يدعون) *: حال، أو مستأنف خوفا وطمعا، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال. والظاهر أن الدعاء هو: الابتهال إلى الله، وقيل: الصلاة.
وقرأ الجمهور: * (ما أخفى لهم) *، فعلا ماضيا مبنيا للمفعول؛ وحمزة، والأعمش، ويعقوب: بسكون الياء، فعلا مضارعا للمتكلم؛ وابن مسعود: وما نخفي، بنون العظمة؛ والأعمش أيضا: أخفيت. وقرأ محمد بن كعب: ما أخفي، فعلا ماضيا مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور: * (من قرة) *، على الإفراد. وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعوف العقيلي: من قرأت، على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و * (ما أخفى) * يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون * (تعلم) * متعلقة. والجملة في موضع المفعول، إن كان * (تعلم) * مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين، وتقدم تفسيره في * (قرة عين) * في طه وفي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم): (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤا إن شئتم: * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) *). وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره. * (ولا * تعلم نفس) *: نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادخرا لله تعالى
(١٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 192 193 194 195 196 197 198 199 200 201 202 ... » »»