تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٩٨
لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن: أخفوا اليوم أعمالا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. * (جزاء بما كانوا يعملون) *، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري: فحسم أطماع المتمنين. انتهى، وهذه نزغة اعتزالية.
* (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) *، قال ابن عباس وعطاء: نزلت في علي والوليد بن عقبة. تلاحما، فقال له الوليد: أنا أذلق منك لسانا، وأحد سنانا، وأرد للكتيبة. فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق. قال الزمخشري: فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج، والنحاس: نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط. فعلى هذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدنية، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر. والجمع في * (لا يستوون) *، والتقسيم بعده، حمل على معنى من. وقيل: * (لا يستوون) * لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع. وقال الزجاج: ونزول الآية في علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد. والجمهور: * (جنات) * بالجمع. وقيل: سميت بذلك لما روي عن ابن عباس، قال: يأوي إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور: * (نزلا) * بضم الزاي؛ وأبو حيوة: بإسكانها. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عاما فيما يعد للضيف. * (وأما الذين فسقوا) *: أي بالكفر، * (فمأواهم النار) *. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) *. انتهى وهذا فيه بعد. وإنما يذهب إلى مثل * (فبشرهم) * إذا كان مصرحا به فيقول: قام مقام التبشير العذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئا لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد.
و * (العذاب الادنى) *، قال أبي، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد: مصائب الدنيا في الأنفس والأموال. وقال ابن مسعود، والحسن بن علي: هو القتل بالسيف، نحو يوم بدر. وقال مجاهد: القتل والجوع لقريش، وعنه: إنه عذاب القبر. وقال النخعي، ومقاتل: هو السنون التي أجاعهم الله فيها. وقال ابن عباس أيضا: هو الحدود. وقال أبي أيضا: هو البطشة واللزام والدخان. و * (العذاب الاكبر) *، قال ابن عطية: لا خلاف أنه عذاب الآخرة. وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل: هو القتل والسبي والأسر. وعن جعفر بن محمد: أنه خروج المهدي بالسيف. * (لعلهم يرجعون) *، قال ابن مسعود: لعل من بقي منهم يتوب. وقال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال مقاتل: يرجعون عن الكفر إلى الإيمان. وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله: * (فارجعنا نعمل صالحا) *. وسميت إرادة الرجوع رجوعا، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم) *. انتهى. ويقابل الأدنى: الأبعد، والأكبر: الأصغر. لكن الأدنى يتضمن الأصغر، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف، إنما يصلح بما هو قريب، وهو العذاب العاجل. والأكبر يتضمن الأبعد، لأنه واقع في الآخرة، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته، فحصلت المقابلة من حيث التضمن، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف.
وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئا كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك، وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، فلم يكن بعده دالا على عجزك. انتهى، وهو على مذهب المعتزلة، وقد رد عليهم أهل السنة، وذلك مقرر في علم الكلام. * (ممن ذكر بئايات ربه ثم أعرض عنها) *، بخلاف المؤمنين، إذا ذكروا بها خروا سجدا. * (ثم أعرض عنها) *، قال
(١٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 193 194 195 196 197 198 199 200 201 202 203 ... » »»