عبدة أصنام، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقا للعبادة، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة. ولما سألهم عن الذي يعبدونه، ولم يقتصروا على ذكره فقط، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم، فقالوا: * (نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) *: على سبيل الابتهاج والافتخار، فأتوا بقصتهم معهم كاملة، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم: أصناما، كما جاء: * (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) *، * (يسئلونك عن الخمر والميسر قل) *، ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم: * (فنظل) *. قال: كما تقول لرئيس: ما تلبس؟ فقال: ألبس مطرف الخز فاجر ذيوله، يريد الجواب: وحاله مع ملبوسه. وقالوا: فنظل، لأنهم كانوا يعبدونهم بالنهار دون الليل. ولما أجابوا إبراهيم، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى.
وقرأ الجمهور: * (يسمعونكم) *، من سمع؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدت إلى واحد، نحو: سمعت كلام زيد، وإن دخلت على غير مسموع، فذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع، نحو: سمعت زيدا يقرأ والصحيح أنها تتعدى إلى واحد، وذلك الفعل في موضع الحال، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وهنا لم تدخل إلا على واحد، ولكنه بمسموع، فتأولوه على حذف مضاف تقديره: هل يسمعوانكم، تدعون؟ وقيل: * (هل يسمعونكم) * بمعنى: يجيبونكم. وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر: بضم الياء وكسر الميم من أسمع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: الجواب، أو الكلام. وإذ: ظرف لما مضى، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي، فيكون التقدير: هل سمعوكم هذ دعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إلى جملة مصدرة بالمضارع، ومثلوا بقوله: * (وإذ تقول للذى أنعم الله عليه) *، أي وإذ قلت. وقال الزمخشري: وجاء مضارعا مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا: هل سمعوا، أو اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. انتهى. وقرئ: بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعونن. قال ابن عطية: ويجوز فيه قياس مذكر، ولم يقرأ به أحد؛ والقياس أن يكون اللفظ به، إذ إتدعون. فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل، فكثرة المتماثلات. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز، لأن ذلك الإبدال، وهو إبدال التاء دالا، لا يكون إلا في افتعل، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال، نحو: إذذكر، وازدجر، وادهن، أصله: اذتكر، وازتجر، وادتهن؛ أو جيم شذوذ، قالوا: أجد مع في اجتمع، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت: فزد، وفي جلدت: جلد، ومن تاء تولج شذوذا قالوا: دولج، وتاء المضارعة ليست شيئا مما ذكرنا، فلا تبدل تاءه. وقول ابن عطية: والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء، المضارعة دالا وإدغام الذال فيها، فكنت تقول: إذ تخرج: ادخرج، وذلك لا يقوله أحد، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء، فتقول: اتخرج.
* (أو ينفعونكم * إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون) * بترك عبادتكم إياهم، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا، فما معنى عبادتكم لها؟ * (قالوا بل وجدنا) * هذه حيدة عن جواب الاستفهام، لأنهم لو قالوا: يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه، ولو قالوا: يسمعوننا ولا يضروننا، لسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة. والكاف في موضع نصب بيفعلون، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله، وهو عبادتهم؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة. وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعا وإقرارا بالعجز.
* (أنتم وءاباؤكم) *: وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادهم الأصنام فيهم، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام، فزمان من بعده؟ وعدو: يكون للمفرد والجمع، كما قال: * (هم العدو فاحذرهم) *، قيل: شبه بالمصدر، كالقبول والولوع. قال الزمخشري: وإنما قال: عدو لي، تصورا للمسألة في نفسه على