تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٥
تحية بينهم ضرب وجيع وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال: هل لزيد مال وبنون؟ فيقول: ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى. وجعله بعضهم استثناء مفرغا، ف (من) مفعول، والتقدير: لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر، وبنوه الصلحاء، إذ كان أنفقه في طاعة الله، وأرشد بنيه إلى الدين، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب، خلوصه من الشرك والمعاصي، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين. وقال سفيان: هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره، وهذا يقتضي عمومه اللفظ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم. وقال الجنيد: بقلب لديغ من خشية الله، والسليم: اللديغ. وقال الزمخشري: هو من بدع التفاسير وصدق.
* (وأزلفت الجنة) *: قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها. * (وبرزت الجحيم) *: أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله: * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل * لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله) *، وذلك على سبيل التوبيخ. هل ينفعونكم بنصرهم إياكم، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها، إذ هم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش: فبرزت بالفاء، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه، وذلك لأن الواو للجمع، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر، وهو من تقديم الرحمة على العذاب، وهو حسن، لو أن رسم المصحف بالواو. وقرأ مالك بن دينار: * (وبرزت) * بالفتح والتخفيف؛ * (الجحيم) * بالرفع، بإسناد الفعل إليها اتساعا. ولما وبخهم وقرعهم، أخبر عن حال يوم القيامة، وجئ في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت. وقيل: * (فكبكبوا) *، لتحقق وقوع ذلك، وإن كان لم يقع. والضمير في: فكبكبوا عائد على الأصنام، أجريت مجرى من يعقل. قال الكرماني: فكبكبوا: قذفوا فيها. وقيل: جمعوا. وقيل: هدروا. وقيل: نكسوا على رؤوسهم بموج بعضهم في بعض. وقيل: ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها. * (والغاوون) *: هم الكفرة الذين شملتهم الغواية. وقيل: الضمير يعود على الكفار، والغاوون: الشياطين. * (وجنود إبليس) *: قبيلة، وكل من تبعه فهو جند له وعون. وقال السدي: هم مشركو العرب، والغاوون: سائر المشركين. وقيل: هم القادة والسفلة، قالوا: أي عباد الأصنام، والجملة بعده حال، والمقول جملة القسم ومتعلقه، والخطاب في * (نسويكم) * للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق. قال ابن عطية: أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى. وقوله: إن كنا إلا ضالين، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد أن هنا نافية، واللام في لفي بمعنى إلا، فليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة.
* (وما أضلنا إلا المجرمون) *: أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم: * (أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) *. وقال السدي: هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وقيل: المجرمون: الشياطين، وقيل: من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. وقال ابن جريج: إبليس وابن آدم القاتل، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان، وشفاعة الصديق في
(٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 ... » »»