تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٣
شفاني بالتوبة. وقال الزمخشري: وإنما قال: مرضت دون أمر ضني، لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب، وإلى الدواء على سبيل المجاز؛ كما قال: * (فيه شفآء للناس) *، أكد بقوله: * (فهو يشفين) *: أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره.
ولما كانت الإماتة بعد البعث، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ لإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في: * (والذى أطمع) *. وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده، وهي رواية عن نافع. والطمع عبارة عن الرجاء، وإبراهيم عليه السلام كان جازما بالمغفرة. فقال الزمخشري: لم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى. ورده الرازي قال: لأن حاصله يرجع إلى أنه، ونطق بكلمة لا أذكرها، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة، وهو باطل قطعا. وقال الجبائي: أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون. ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره، مما يبطل نظم الكلام. وقال الحسن: المراد بالطمع اليقين. وقال الرازي: لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا، حيث قلنا: إنه لا يجب على الله شيء، وإنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله. وقال ابن عطية: أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته.
وقرأ الجمهور: خطيئتي على الإفراد، والحسن: خطاياي على الجمع، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله: * (إنى سقيم) *، و * (بل فعله كبيرهم) *، وهي أختي في سارة. وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، قدرها في كل أمره من غير تعيين. قال ابن عطية: وهذا أظهر عندي، لأن تلك الثكلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض. وقال الزمخشري: المراد ما يندر منه في بعض الصغائر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض، كلام وتخيلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر، وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا، وطمع أن يغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: اطمع، ولم يجزم القول. انتهى. و * (يوم الدين) *: ظرف، والعامل فيه يعفر، والغفران، وإن كان في الدنيا، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى. وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز، وحمله على سبيل التواضع قال: لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، لأجل تنزيهه عن المعصية. قال: والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى خطأ. فإن من باع جوهرة تساوي ألفا بدينار، قيل: أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز. انتهى، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة.
وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته، ثم سأله تعالى فقال: * (رب هب لى حكما) *، فدل على أن تقديم الثناء على المسلة من المهمات. والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق. وقيل: الحكم: الحكمة والنبوة، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة،
(٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 ... » »»