تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٢
* وهل ينعمن إلا سعيد مخلد * قليل الهموم ما يبيت بأوجال * وإذا بطشتم: أي أردتم البطش، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه، كقوله:
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة أي متى أردتم بعثها. قال الحسن: بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في العواقب. وقيل: المعنى أنكم كفار الغضب، لكم السطوات المفرطة والبوادر. فبناء الأبنية العالية تدل على حب العلو، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء، والجبارية تدل على التفرد بالعلو، وهذه صفات الإلاهية، وهي ممتنعة الحصول للعبد. ودل ذلك على استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية، وحب الدنيا رأس كل خطيئة. ولما نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة، أمرهم ثانيا بتقوى الله وطاعة نبيه. ثم أمرهم ثالثا بالتقوى تنبيها لهم على إحسانه تعالى إليهم، وسبوغ نعمته عليهم. وأبرز صلة * (الذى) * متعلقة بعلمهم، تنبيها لهم وتحريضا على الطاعة والتقوى، إذ شكر المحسن واجب، وطاعته متعينة، ومشيرا إليهم بأن من أمد بالإحسان هو قادر على سلبه، وعلى تعذيب من لم يتقه، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم، وإنما هو من تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئا بعد شيء. ولما أتى بذكر ما أمدهم به مجملا محالا على علمهم، أتى به مفصلا. فبدأ بالأنعام، وهي التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا، والقوة على من عاداهم، والغنى هو السبب في حصول الذرية غالبا لوجده. وبحصول القوة أيضا بالبنين، فلذلك قرنهم بالأنعام، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها. واتبع ذلك بالبساتين والمياه المطردة، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة.
* (* وبأنعام) *: ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله: * (خبير بما تعملون) *، وأعيد العامل كقوله: * (اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسئلكم) *. والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل، وإن كان المعنى واحدا، ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد عندهم العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به، نحو: مررت بزيد بأخيك، ثم حذرهم عذاب الله، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم، إذ كان راجيا لإيمانهم، فكان من جوابهم أن قالوا: * (سواء علينا) * وعظك وعدمه، وجعلوا قوله وعظا، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذب فيما ادعاه، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به. وقرأ الجمهور: وعظت، بإظهار الظاء. وروي عن أبي عمرو، والكسائي، وعاصم: إدغام الظاء في التاء. وبالإدغام، قرأ ابن محيصن، والأعمش، إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ: أوعظتنا. وينبغي أن يكون إخفاء، لأن الظاء مجهورة مطبقة، والتاء مهموسة منفتحة، فالظاء أقوى من التاء، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين، أو في المتقاربين، إذا كان الأول أنقص من الثاني. وأما إدغام الأقوى في الأضعف، فلا يحسن. على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات، فوجب قبولها، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس.
وعادل * (أوعظت) * بقوله: * (أم لم تكن من الواعظين) *، وإن كان قد يعادله: أم لم تعظ. كما قال: * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) * لأجل الفاصلة، كما عادلت في قوله: * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) *، ولم يأت التركيب أم صمتم، وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه. وقال الزمخشري: بينهما فرق، يعني بين ما جاء في الآية وهي: أم لم تعظ، قال: لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشرته، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظ من قولك: أم لم تعظ. ولما لم يبالوا بما أمرهم به، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم، أجابوه بأن قالوا: * (إن هاذا إلا خلق الاولين) *. وقرأ عبد الله، وعلقمة، والحسن، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي: خلق، بفتح الخاء وسكون اللام، فهو يحتمل أن يكون المعنى: إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا اختلاق الأولين من الكذبة
(٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 ... » »»