غربة في بلاد لا دار لنا، ولا فيه عقار، ولا من يطعم. فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر، ولا تروي في رزقها، ولا تحمل رزقها، من الحمل: أي لا تنقل، ولا تنظر في إدخار، قاله مجاهد، وأبو مجلز، وعلي بن الأقمر. والإدخار جاء في حديث: (كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين؟) قيل: ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى. وقال الحسن: * (لا تحمل رزقها) *: لا تدخر، إنما تصبح فيرزقها الله. وقال ابن عباس: لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق، وقيل: البلبل يحتكر في حضنيه، ويقال: للعقعق مخابىء، إلا أنه ينساها. وانتفاء حملها لرزقها، إما لضعفها وعجزها عن ذلك، وإما لكونها خلقت لا عقل لها، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل: أي يرزقها على ضعفها. * (وإياكم) *: أي على قدرتكم على الاكتساب، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة، ومع ذلك فرازقكم هو الله، * (وهو السميع) * لقولكم: نخشى الفقر، * (العليم) * بما انطوت عليه ضمائركم.
ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله. وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه، فقال: * (الله يبسط الرزق لمن يشاء) * أن يبسطه، * (ويقدر) * لمن يشاء أن يقدره. والضمير في له ظاهره العود على من يشاء، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت، ويقدر في وقت. ويجوز أن يكون الضمير عائدا عليه في اللفظ، والمراد لمن يشاء آخر، فصار نظير: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) *: أي من عمر معمر آخر. وقولهم: عندي درهم ونصفه: أي ونصف درهم آخر، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق. وقرأ علقمة الحمصي: ويقدر: بضم الياء وفتح القاف وشد الدال، * (عليم) *: يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم، ومسخر النيرين، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله، كان ذلك الإقرار ملزما لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به. وأمر رسوله بالحمد له تعالى، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك، وكان ذلك حجة عليهم، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام. * (بل أكثرهم لا يعقلون) *، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي، ويعبدون غيره.
* (وما هاذه الحيواة الدنيا) *: الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون. والحيوان، والحياة بمعنى واحد، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي، والمعنى: لهي دار الحياة، أي المستمرة التي لا تنقطع. قال مجاهد: لا موت فيها. وقيل: الحيوان: الحي، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر. وجعلت الدار الآخرة حيا على المبالغة بالوصف بالحياة، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها، نحو: شقي من الشقوة. ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذا، وجواب لو محذوف، أي لو كانوا يعلمون، لم يؤثروا دار الفناء عليها. وجاء بنا مصدر حي على فعلان، لأنه يدل على الحركة والاضطراب، كالغليان، والنزوان، واللهيان، والجولان، والطوفان. والحي: كثير الاضطراب والحركة، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة.
ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا: من خلق العالم؟ * (ومن * نزل من السماء ماء) *؟ ذكر أيضا حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: * (فإذا ركبوا فى الفلك) *؟ قلت: بمحذوف