تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٤٤
فتستريحوا منه عاجلا، أو حرقوه بالنار؛ فإما أن يرجع إلى دينكم، إذا أمضته النار؛ وإما أن يموت بها، إن أصر على قوله ودينه. وفي الكلام حذف، أي حرقوه في النار، * (فأنجاه الله من النار) *. وتقدمت قصته في تحريقه في سورة * (اقترب للناس حسابهم) *. وجمع هنا فقال: الآيات، لأن الإنجاء من النار، وجعلها بردا وسلاما، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم، وإن صح ما نقل من أن مكانها، حالة الرمي، صار بستانا يانعا، هو مجموع آيات، فناسب الجمع، بخلاف الإنجاء من السفينة، فإنه آية واحدة، وتقدم الكلام على ذلك، وفي ذلك إشارة من النار بعد إلقائه؛ فيما قال كعب: لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به. وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه، فقد يكون ذلك من قائلين: ناس أشاروا بالقتل، وناس أشاروا بالإحراق. وفي اقترب قالوا: * (حرقوه) * اقتصروا على أحد الشيئين، وهو الذي فعلوه، رموه في النار ولم يقتلوه.
وقرأ الجمهور: * (جواب) *، بالنصب؛ والحسن، وسالم الأفطس: بالرفع، اسما لكان. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية الأصمعي، والأعمش عن أبي بكر: مودة بالرفع، وبينكم بالنصب. فالرفع على خبر إن، وما موصولة بمعنى الذي، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودودا، أو سبب مودة، أو مصدرية، أي إن اتخاذكم أوثانا مودة، أو على خبر مبتدأ محذوف، أي هي مودة بينكم، وما إذ ذاك مهيئة. وروى عن عاصم: مودة، بالرفع من غير تنوين؛ وبينكم بالفتح، أي بفتح النون، جعله مبنيا لإضافته إلى مبني، وهو موضع خفض بالإضافة، ولذلك سقط التنوين من مودة. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وابن كثير: كذلك، إلا أنه خفض نون بينكم. وقرأ ابن عامر، وعاصم: بنصب مودة منونا ونصب بينكم؛ وحمزة كذلك، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض، كما في قراءة من نصب مودة مهيئة. واتخذ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين، والثاني هو مودة، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم، على حذف المضاف، أو اتخذتموها مودة بينكم، كقوله: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) *، أو مما تعدت إلى واحد، وانتصب مودة على أنه مفعول له، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها، كما يجتمع ناس على مذهب، فيقع التحاب بينهم. وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف، مع أنه قد روي عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض، فلذلك لم أذكر تلك القراءة. * (ثم يوم القيامة) * يقع بينكم التلاعن، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام، كقوله: و * (يكونون * عليهم ضدا) *. و * (بينكم) *، و * (وقال إنما) *: يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما، إذ هما ظرفا مكان وزمان، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين، فيكونان في موضع الصفة، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق * (وقال إنما) *. باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية ورفع موده، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر. وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق * (وقال إنما) * بمودة، وأن يكون * (بينكم) * صفة لمودة، وهو لا يجوز، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعمل، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف، بخلاف المفعول به. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم، قال: لأن معناه: اجتماعكم أو وصلكم. وأجاز أيضا أن يجعله حالا من بينكم، قال: لتعرفه بالإضافة. انتهى، وهما إعرابان لا يتعقلان.
* (فئامن له لوط) *: لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام، حين رأى النار لم تحرقه، وكان ابن أخي سارة، أو كانت بنت عمه. والضمير في * (وقال) * عائد على إبراهيم، وهو الظاهر، ليتناسق مع قوله: * (ووهبنا له إسحاق) *، وهو قول قتادة والنخعي. وقالت فرقة: يعود على لوط، وهاجر، وإبراهيم، عليهم السلام، من قريتهما كوني، وهي في سواد العراق، من أرض بابل، إلى فلسطين من أرض الشأم. وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة، وهو أول من هاجر في الله. وقال ابن جريج: هاجر إلى حران، ثم إلى الشام، وفي هجرته هذه كانت معه سارة. والمهاجر: الفارغ عن الشيء، وهو في عرف الشريعة: من ترك وطنه رغبة في رضا الله. وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، المهاجرون، قبل فتح مكة. * (إلى ربى) *، أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها. وقيل: إلى حيث لا أمنع عبادة ربي
(١٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148 149 ... » »»