تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٣٩
المشركون فارتدوا، وهم الذين قال فيهم: * (إن الذين توفاهم الملئكة ظالمى أنفسهم) *.
* (ولئن جاء نصر من ربك) *: أي للمؤمنين، * (ليقولن) *: أي القائلون أو ذينا في الله، * (إنا معكم) *: أي متابعون لكم في دينكم، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم، قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم. وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم، إذ لو كان إيمانهم صحيحا، لصبروا على أذى الكفار، وإن كانت فيمن هاجر، وكانوا يحتالون في أمرهم، وركبوا كل هول في هجرتهم. وقرئ: ليقولن، بفتح اللام، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري. وأعلم: أفعل تفضيل، أي من أنفسهم؛ وبما في صدورهم: أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق، وهذا استفهام معناه التقرير، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر. * (وليعلمن المنافقين) *: ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين، كما قال ابن زيد، وعلمه بالمؤمن، وعد له بالثواب، وبالمنافق وعيد له بالعقاب. ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين، ذكر مقالة الكافرين قولا واعتقادا، وهم رؤساء قريش. قال مجاهد: كانوا يقولن لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن كان عليكم شيء فهو علينا. وقيل: قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف، قالا لعمران: كان في الإقامة على دين الآباء إثم، فنحن نحمله عنك، وقيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة. قال ابن عطية: وقوله: * (ولنحمل) *، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر، لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازاة، ومن هذا النوع قول الشاعر:
* فقلت ادعى وأدعو فإن أندى * لصوت أن ينادي داعيان * ولكونه خبرا حسن تكذيبهم فيه. وقال الزمخشري: أمروهم باتباع سبيلهم، وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا، ليجتمع هذان الأمران في الحصول، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، وهذا قول صناديد قريش، كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن عسى، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. انتهى. وقوله: فإن عسى، كان تركيب أعجمي لا عربي، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى، لأنه فعل جامد، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد؛ وأيضا فإن عسى لا يليها كان، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر، ولم يستعملها تامة. وقرأ الحسن، وعيسى، ونوح القارئ: ولنحمل، بكسر لام الأمر؛ ورويت عن علي، وهي لغة الحسن، في لام الأمر. والحمل هنا مجاز، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر، والخطايا بالمحمول. وقال مجاهد: نحمل هنا من الحمالة، لا من الحمل. وقرأ الجمهور: * (من خطاياهم) *. وقرأ داود بن أبي هند، فيما ذكر أبو الفضل الرازي: من خطيئتهم، على التوحيد، قال: ومعناه الجنس، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة. وذكر ابن خالويه، وأبو عمر والداني أن داود هذا قرأ: من خطيآتهم، بجمع خطيئة جمع السلامة، بالألف والتاء. وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ: من خطئهم، بفتح الطاء وكسر الياء، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين، فأشبهت الياء، لأن قياس تسهيلها هو ذلك.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف سماهم كاذبين؟ وإنما ضمنوا شيئا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به، ومن ضمن شيئا لا يقدر على الوفاء به، لا يسمى كاذبا، لا حين ضمن، ولا حين عجز، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين، وهو المخبر عن الشيء، لا على ما هو عليه؟ قلت: شبه الله حالهم، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده، لا على ما عليه بالكاذبين الذين خبرهم، لا على ما عليه المخبر عنه. ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يصدقون الشيء، وفي قلوبهم فيه الخلف. انتهى. وتقدم من قول ابن عطية أن قوله: ولنحمل خبر، يعني أمرا، ومعناه الخبر، وهذان الأمران منزلة الشرط والجزاء، إذ المعنى: أن تتبعوا سبيلنا، ولحقكم في ذلك إثم على ما
(١٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 144 ... » »»