تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٤٦
كنت من الصادقين) *، فيما تعدنا به من نزول العذاب، قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به. وفي آية أخرى: * (فما كان جواب قومه إلا أن) *، الجمع بينهما أنهم أولا قالواغ: * (ائتنا بعذاب الله) *، ثم أنه كثر منه الإنكار، وتكرر ذلك منه نهيا ووعظا ووعيدا، * (قالوا أخرجوا ءال لوط) *. ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من قبيح المعاصي، ويعد على ذلك بالعذاب، وكانوا يقولون إن الله لم يحرم هذا ولا يعذب عليه وهو يقول إن الله حرمه ويعذب عليه، * (قالوا ائتنا بعذاب الله) *، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم: * (اقتلوه أو حرقوه) *، لأنه كان لا يذم آلهتهم، وعهد إلى أصنامهم فكسرها، فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه، فكان جوابهم له: * (أن قالوا اقتلوه أو حرقوه) *.
ثم استنصر لوط عليه السلام، فبعث ملائكة لعذابهم، ورجمهم بالحاصب، وإفسادهم بحمل الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعا وكرها، وخصوصا تلك المعصية المبتدعة. * (بالبشرى) *: هي بشارته بولده إسحاق، وبنافلته يعقوب، وبنصر لوط على قومه وإهلاكهم، و * (القرية) *: سدوم، وفيها قيل: أجور من قاضي سدوم. * (كانوا ظالمين) *: أي قد سبق منهم الظلم. واستمر على الأيام السالفة وهم مصرون، وظلمهم: كفرهم وأنواع معاصيهم. ولما ذكروا لإبراهيم: * (إنا مهلكو أهل هاذه القرية) *، أشفق على لوط فقال: * (إن فيها لوطا) *. ولما عللوا الإهلاك بالظلم، قال لهم: فيها من هو بريء من الظلم، * (قالوا نحن أعلم بمن فيها) *: أي منك، وأخبر بحاله. ثم أخبروه بإنجائهم إياه * (وأهله إلا امرأته) *. وقرأ حمزة، والكسائي: * (* لنجينه) *، مضارع أنجى؛ وباقي السبعة: مضارع نجى؛ والجمهور: بشد النون؛ وفرقة: بتخفيفها.
* (الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا) *: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة، إلا أن هنا زيدت، أن بعد لما، وهو قياس مطرد. وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه. انتهى. وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه، إذ مذهبه. أن لما: حرف لا ظرف، خلافا للفارسي، وهذا مذكور في علم النحو. وقرأ العربيان، ونافع، وحفص: * (منجوك) *، مشددا؛ وباقي السبعة: مخففا، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر. * (وأهلك) *: منصوب على إضمار فعل، أي وننجي أهلك. ومن راعى هذا الموضع، عطفه على موضع الكاف، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب، وأهلك معطوف عليه، لأن هذه النون كالتنوين، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله. وقرأ الجمهور: سئ، بكسر السين؛ وضمها نافع وابن عامر والكسائي. وقرأ عيسى، وطلحة: سوء، بضمهما، وهي لغة بني هذيل. وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما: قول وبوع. وقرئ: منزلون، مخففا ومشددا؛ وابن محيصن: رجزا، بضم الراء؛ وأبو حيوة والأعمش: بكسر سين يفسقون. والظاهر أن الضمير في منها عائد على القرية، فقال ابن عباس: منازلهم الخربة. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم، إلا أن أساسها أعلاها، وسقوفها أسفلها إلى الآن. وقال الفراء: المعنى تركناها آية، يقول: إن في السماء لآية، يريد أنها آية. انتهى، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب، نحو قوله: أمهرت منها جبة وتيسا، يريد: أمهرتها؛ وكذلك: ولقد تركناها آية، وقيل: الهاء في منها عائدة على الفعلة التي فعلت بهم، فقيل: الآية: الحجارة التي أدركتها أوائل هذه
(١٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 141 142 143 144 145 146 147 148 149 150 151 ... » »»