تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٤١
ذلك التوهم المجازي.
وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة. والضمير في * (وجعلناها) * يحتمل أن يعود على * (السفينة) *، وأن يعود على الحادثة والقصة، وأفرد * (ءاية) * وجاء بالفاصلة * (للعالمين) *، لأن إنجاء السفن أمر معهود. فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة، ولأنها بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها، فحصل العلم بها لهم، فناسب ذلك قوله: * (للعالمين) *، وانتصب * (إبراهيم) * عطفا على * (نوحا) *. قال ابن عطية: أو على الضمير في * (فأنجيناه) *. وقال هو والزمخشري: بتقدير اذكروا بدل منه، إذ بدل اشتمال منه، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، وقد تقدم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف، فلا يكون مفعولا به، وقد كثر تمثيل المعربين، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر، وإذا كانت ظرفا لما مضي، فهو لو كان منصرفا، لم يجز أن يكون معمولا لا ذكر، لأن المستقبل لا يقع في الماضي، لا يجوز ثم أمس، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه، جاز أن يكون مفعولا به ومعمولا لا ذكر. وقرأ النحعي، وأبو جعفر، وأبو حنيفة، وإبراهيم: بالرفع، أي: ومن المرسلين إبراهيم. وهذه القصة تمثيل لقريش، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام، والدعوى إلى عبادة الله، وكان نمروذ وأهل مدينة عباد أصنام. وقرأ الجمهور: * (وتخلقون) *، مضارع خلق، * (إفكا) *، بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ علي، والسلمي، وعون العقيلي، وعبادة، وابن أبي ليلى، وزيد بن علي: بفتح التاء والخاء واللام مشددة. قال ابن مجاهد: رويت عن ابن الزبير، أصله: تتخلقون، بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة. وقرأ زيد بن علي أيضا، فيما ذكر الأهوازي: تخلقون، من خلق المشدد. وقرأ ابن الزبير، وفضيل بن زرقان: أفكا، بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب. قال ابن عباس: * (وتخلقون إفكا) *، هو نحت الأصنام وخلقها، سماها إفكا توسعا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة. وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك. وقال الزمخشري: إفكا فيه وجهان: أحدهما: أن تكون مصدرا نحو: كذب ولعب، والإفك مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن تكون صفة على فعل، أي خلقا إفكا، ذا إفك وباطل، واختلافهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه، أو سمي الأصنام إفكا، وعملهم لها نحتهم خلقا للإفك. انتهى.
وهذا الترد بد منه في نحو: * (وتخلقون إفكا) *، قولان لابن عباس ومجاهد، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله: * (لا يملكون لكم رزقا) * على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامتهم وخاصتهم، فقرر أن الأصنام لا ترزق، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر: لا يملكون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، واحتمل أن يكون اسم المرزوق، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله، وخص الرزق لمكانته من الخلق. ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه، وعرفه بعد لدلالته على العموم، لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها. * (واشكروا له) * على نعمة السابغة من الرزق وغيره. * (وإليه ترجعون) *: أي إلى جزائه، أخبر بالمعاد والحشر. ثم قال: * (وإن تكذبوا) *: أي ليس هذا مبتكرا منكم، وقد سبق ذلك من أمم الرسل، قيل: قوم شيث وإدريس وغيرهم. وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه، وباقيهم على التكذيب. * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) *: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، بخلاف عنه: تروا، بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة: بالياء. والجمهور: يبديء، مضارع أبدأ؛ والزبير. وعيسى، وأبو عمرو: بخلاف عنه: يبدأ، مضارع بدأ. وقرأ الزهري: * (كيف بدأ الخلق) *، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا، فذهبت في الوصل، وهو تخفيف غير قياسي، كما قال الشاعر:
(١٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 136 137 138 139 140 141 142 143 144 145 146 ... » »»