تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٧٤
على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه * (ويسئلونك عن الروح) * الآية. وروي أن يهود قالوا لقريش: سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي. وفي بعض طرق هذا: إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية * (أم حسبت أن أصحاب الكهف) * ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب * (ويسألونك عن ذى القرنين) * ونزل في الروح * (ويسئلونك عن الروح) * والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر. وقال قتادة: هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه. وقيل: عيسى ابن مريم عليه السلام وعن علي أنه ملك، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن علي.
وقيل: الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده. وقيل: خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وقيل: الروح جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي. وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل، ولا ينزل ملك من السماء إلا ومعه واحد منهم، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلا الله. وقد رأيت كتابا يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله * (قل الروح من أمر ربى) * إنما هو للعوام، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولا، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها، ومعنى * (من أمر ربى) * أي فعل ربي كونها بأمره، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى * (وما أمر فرعون برشيد) * أي فعله، ويحتمل أن يكون أمرا واحدا الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها. وقيل: من وحي ربي، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن. وقيل: من علم ربي والظاهر أن الخطاب في * (وما أوتيتم) * هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود. وقيل اليهود بجملتهم. وقيل الناس كلهم.
قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله * (قل الروح) * إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى. وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش: وما أوتوا بضمير الغيبة عائدا على السائلين، ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم) شفاء ورحمة وقدرته على ذلك، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه. وقال أبو سهل: هذا تهديد لغير الرسول صلى الله عليه وسلم) بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة. وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب، ثم قرأ عبد الله * (ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك) *. وقال صاحب التحرير: ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه صلى الله عليه وسلم) لما أبطأ عليه الوحي لما سئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية، فأنزل الله تعالى تهذيبا له هذه الآية. ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا لو شئنا ذهبنا بما * (أوحينا إليك) * جميعه فسكت النبي صلى الله عليه وسلم) وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى. والباء في * (لنذهبن بالذى) * للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله * (لذهب بسمعهم) * في أوائل سورة البقرة. والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا
(٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 ... » »»