تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٧٧
فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول: وإن كان مرفوعا هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضيا وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري: والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلا أن يكابروا فيقولوا: هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى. وتكرر لفظ مثل في قوله: * (لا يأتون بمثله) * على سبيل التأكيد والتوضيح، وأن المراد منهم * (أن يأتوا) * بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه، فبين بتكرار * (بمثله) * ولم يكن التركيب * (لا يأتون) * به رفعا لهذا الاحتمال، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن.
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلا كافرين به وبنعمه. وقرأ الجمهور: * (صرفنا) * بتشديد الراء والحسن بتخفيفها، والظاهر أن مفعول * (صرفنا) * محذوف تقديره البينات والعبر و * (من) * لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد * (صرفنا) * * (كل مثل) * انتهى. يعني فيكون مفعول * (صرفنا) * * (كل مثل) * وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى.
وقال الزمخشري: * (من كل مثل) * من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقال أبو عبد الله الرازي: * (من كل مثل) * إشارة إلى التحدي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله * (فليأتوا بحديث مثله) * ومع ظهور عجزهم أبو * (إلا كفورا) * انتهى ملخصا. وقيل: * (من كل مثل) * من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس. قيل: من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب. وقيل: أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله * (وقالوا لن نؤمن لك) * وتقدم القول في دخول * (إلا) * بعد * (أبى) * في سورة براءة. وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبي صلى الله عليه وسلم)، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى، فقال: (لست أطلب ذلك). فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن * (قل لئن اجتمعت الإنس) * فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج، فقالوا ما حكاه الله عنهم.
وقرأ الكوفيون: * (* تفجره) * من فجر مخففا وباقي السبعة من فجر مشددا، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم، روي عنهم أنهم قالوا له: أزل جبال مكة وفجر لنا * (الارض ينبوعا
(٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 ... » »»