تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٧٣
وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها. وقال ابن المسيب: يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.
وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيمانا.
* (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه كان يئوسا * قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا * ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا * ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا) *.
لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسارة للظالم، وعرض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، ومع ذلك * (أعرض) * عنه وبعد بجانبه اشمئزازا له وتكبرا عن قرب سماعه وتبديلا مكان شكر الإنعام كفره. وقرأ الجمهور: * (ونأى) * من النأي وهو البعد، وقرأ ابن عامر وناء. وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد. وقيل: معناه نهض بجانبه. وقال الشاعر:
* حتى إذا ما التأمت مفاصله * وناء في شق الشمال كاهله * أي نهض متوكئا على شماله. ومعنى * (* يؤوسا) * قنوطا من أن ينعم الله عليه. والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحدا بعينه بل المراد به الجنس كقوله * (جمعا إن الإنسان لربه لكنود) * * (إن الإنسان خلق هلوعا) * الآية وهو راجع لمعنى الكافر، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين. والشاكلة قال ابن عباس: ناحيته. وقال مجاهد: طبيعته. وقال الضحاك: حدته. وقال قتادة والحسن: نيته. وقال ابن زيد: دينه. وقال مقاتل: خلقه وهذه أقوال متقاربة. وقال الزمخشري: على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه، والدليل عليه قوله * (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) * أي أشد مذهبا وطريقة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها * (غافر الذنب وقابل التوب) * قدم الغفران قبل قبول التوبة. وعن عثمان رضي الله عنه لم أر آية أرجى من * (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم) *. وعن علي كرم الله وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من * (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * الآية. قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن. وعن القرطبي: لم أر آية أرجى من * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * الآية.
وقال أبو عبد الله الرازي: الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى. وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: إني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في حرث بالمدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقال: سلوه عن الروح فقال بعضهم: لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»