تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٦٣
هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا * (إلا قليلا) * يوم بدر. وقال الزجاج حاكيا أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا. وقال مجاهد: ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال: ولو أخرجته قريش لعذبوا. ذهب مجاهد إلى أن الضمير في * (يلبثون) * لجميعهم. وقال الحسن: * (ليستفزونك) * ليفتنونك عن رأيك. وقال ابن عيسى: ليزعجونك ويستخفونك. وأنشد:
* يطيع سفيه القوم إذ يستفزه * ويعصى حليما شيبته الهزاهز * والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز، ثم جاء في القرآن * (وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك) * أي أخرجك أهلها. وفي الحديث: (يا ليتني كنت فيها جذعا إذ يخرجك قومك قال: أو مخرجي هم) الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه . لكن الإخراج الذي هو علة للأستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث. وقال أبو عبد الله الرازي: ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى.
* (ولا * يلبثون) * جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت * (لا يلبثون) * ولذلك لم تعمل * (إذا) * لأنها توسطت بين قسم مقدر، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب، ويحتمل أن تكون * (لا يلبثون) * خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره، وهم * (إذا لابتغوا * يلبثون) * فوقعت إذا بين المبتدأ وخبره فألغيت. وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذا فنصب بها على قول الجمهور، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي وإذا لا يلبثوا عطف على جملة قوله * (وإن كادوا ليستفزونك) * انتهى. وقرأ عطاء * (لا يلبثون) * بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء. وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص * (خلافك) * وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد. قال الشاعر:
* عفت الديار خلافهم فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا * وهذا كقوله * (فرح المخلفون بمقعدهم) * خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات. وقرأ عطاء بن أبي رباح: بعدك مكان خلفك، والأحسن أن يجعل تفسيرا لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك. وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله، في نحو خلفك أي خلف إخراجك، أو جاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد. وانتصب * (سنة) * على
(٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 ... » »»