وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل، وظن موسى ظن صدق، ولذلك آل أمر فوعون إلى الهلاك كان أولا موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال * (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) * فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال له الله: لا تخف وثق بحماية الله، فصال على فرعون صولة المحمي. وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك. ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد، وملعون في قول ابن عباس، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران، ومسحور في قول الضحاك قال: رد عليه مثل ما قال له فرعون ما ختلاف اللفظ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أي ما منعك وصرفك. وقرأ أبي وإن أخالك يا فرعون لمثبورا وهي أن الخفيفة، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه. ومن قومه والضمير في * (من بعده) * عائد على فرعون أي من بعد إغراقه، و * (الارض) * المأمور بسكناها أرض الشام، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة.
* (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا * ويقولون) *.
وبالحق أنزلناه) * هو مردود على قوله * (*) * هو مردود على قوله * (لئن اجتمعت الإنس والجن) * الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في * (أنزلناه) * عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلا كما قال * (وأنزلنا الحديد) * أو عائد على الآيات التسع، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله. وقال أبو سليمان الدمشقي * (وبالحق) * أي بالتوحيد، * (أنزلناه وبالحق نزل) * أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي. وقال الزهراوي: بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، * (وبالحق نزل) * أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره. وقال الزمخشري: وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، وما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين انتهى. وقد يكون * (وبالحق نزل) * توكيدا من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله وجاء، * (وبالحق نزل) * مزيلا لهذا الاحتمال ومؤكدا حقيقة، * (وبالحق أنزلناه) * وإلى معنى التأكيد نحا الطبري. وانتصب * (مبشرا ونذيرا) * على الحال أي * (مبشرا) * لهم بالجنة ومنذرا من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين.
وقرأ الجمهور: * (فرقناه) * بتخفيف الراء أي بينا حلاله وحرامه قاله ابن عباس، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كقوله * (فيها يفرق كل أمر حكيم) *. وقرأ أبي وعبد الله وعلي وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي * (أنزلناه) * نجما بعد نجم. وفصلناه في النجوم. وقال بعض من اختار ذلك: لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين. قال ابن عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس. وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة. وقيل: في خمس وعشرين، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة. قال ابن عطية: وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن.
وقيل معنى: * (فرقناه) * بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي، وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي. وانتصب * (قرءانا) * على إضمار فعل يفسره * (فرقناه) * أي وفرقنا * (قرءانا * فرقناه) * فهو من باب الاشتغال وحسن النصب، ورجحه على الرفع كونه عطفا على جملة فعلية وهي قوله * (وما أرسلناك) *. ولا بد من تقدير صفة لقوله * (وقرءانا) * حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها، والتقدير * (وقرءانا) * أي قرآن أي عظيما جليلا، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل بفسره الظاهر بعده خرجه الحوفي