تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٠٣
الفاعل حقيقة هو الله * (بل فعله كبيرهم) * وأسند الفعل إلى * (كبيرهم) * على جهة المجاز لما كان سببا في كسر هذه الأصنام هو تعظيمهم وعبادتهم له ولما دونه من الأصنام كان ذلك حاملا على تحطيمها وكسرها فأسند الفعل إلى الكبير إذ كان تعظيمهم له أكثر من تعظيمهم ما دونه، وقال قريبا من هذا الزمخشري. ويحتمل أن يكون فعل الكبير متقيدا بالشرط فيكون قد علق على ممتنع أي فلم يكن وقع أي إن كان هؤلاء الأصنام * (ينطقون) * ويخبرون من الذي صنع بهم ذلك فالكبير هو الذي صنع ذلك وأشار إلى نحو من هذا ابن قتيبة.
وقال الزمخشري: هذا من تعاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني، والقول فيه إن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما قال لك صاحبك وقد كتبت إليه كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط أو لا يقدر إلا على خرمشة فاسدة؟ فقلت له: بل كتبته أنت كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك ولا إثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاء وإثبات للقادر، ويجوز أن يكون حكاية لما يعود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على هذا وأشد منه.
ويحكى أنه قال * (فعله كبيرهم) * هذا غضب أن يعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها انتهى. ومن جعل الفاعل بفعله ضميرا يعود على قوله فتى أو على إبراهيم أو قال آخر بغير المطابق لمصلحة دينية، واستدل بما روي في الحديث أو وقف على * (بل فعله) * أي فعله من فعله وجعل * (كبيرهم هاذا) * مبتدأ وخبرا وهو الكسائي أو أصله * (* فعلة) * بمعنى لعله وخفف اللام وهو الفراء مستدلا بقراءة ابن السميفع * (بل فعله) * بمعنى لعله مشدد اللام فهم بعداء عن طريق الفصاحة * (فرجعوا إلى أنفسهم) * أي إلى عقولهم حين ظهر لهم ما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أن الأصنام التي أهلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر قبل، ويحتمل أن يكون * (فرجعوا) * أي رجع بعضهم إلى بعض * (فقالوا إنكم أنتم الظالمون) * في سؤالكم إبراهيم حين سألتموه ولم تسألوها ذكره ابن جرير، أو حين عبدتم ما لا ينطق قاله ابن عباس، أو حين لم تحفظوا آلهتكم قاله وهب، أو في عبادة الأصاغر مع هذا الكبير قاله وهب أيضا أو حين أبهتهم إبراهيم والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل وابن إسحاق أو * (الظالمون) * حقيقة حيث نسيتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم * (إنه على * الظالمين) * إذ هذه الأصنام مستحقة لما فعل بها.
* (ثم نكسوا على * رؤوسهم) * أي ارتكبوا في ضلالهم وعلموا أن الأصنام لا تنطق فساءهم ذلك حين نبه على قيام الحجة عليهم وهي استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس على رأسه وهي أقبح هيئة للإنسان، فكان عقله منكوس أي مقلوب لانقلاب شكله، وجعل أعلاه أسفله فرجوعهم إلى أنفسهم كناية عن استقامة فكرهم ونكسهم كناية عن مجادلتهم ومكابرتهم. ويحتمل أن يكون * (نكسوا على * رؤوسهم) * كناية عن تطأطىء رؤوسهم وتنكيسها إلى الأرض على سبيل الخجل والانكسار مما بهتهم به إبراهيم من قول الحق ودمغهم به فلم يطيقوا جوابا.
* (ولقد علمت) * جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال أي قائلين * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) * فكيف تقول لنا * (فاسئلوهم) * إنما قصدت بذلك توبيخا ويحتمل أن يكون النكس للفكرة فيما يجيبون به. وقال مجاهد * (نكسوا على * رؤوسهم) * أي ردت السفلة على الرؤساء و * (علمت) * هنا معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي علمت إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف * (نكسوا) * وقرأ رضوان بن المعبود * (نكسوا) * بتخفيف الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم.
ولما ظهرت الحجة عليهم أخذ يقرعهم ويوبخهم بعباده تماثيل ما لا ينفع ولا يضر، ثم
(٣٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 298 299 300 301 302 303 304 305 306 307 308 ... » »»