تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٠٥
النصب. والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها برد وسلام، ولما كانت النار تنفعل لما أراده الله منها كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول لها والنداء والأمر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال، كما كانت والله على كل شيء قدير، ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم أدنى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله * (على إبراهيم) * انتهى.
وروي أنهم قالوا هي نار مسجورة لا تحرق فرموا فيها شيخا منهم فاحترق وأرادوا به كيدا. قيل: هو إلقاؤه في النار * (فجعلناهم الاخسرين) * أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه جادلوا إبراهيم فجدلهم وبكتهم وأظهر لهم وأقر عقولهم، وتقووا عليه بالأخذ والإلقاء فخلصه الله. وقيل: سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم، وسلط الله على نمروذ بعوضة واختلف في كيفية إذايتها له وفي مدة إقامتها تؤذيه إلى أن مات منها.
والضمير في * (ونجيناه) * عائدا على إبراهيم وضمن معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض ولذلك تعدى * (نجيناه) * بإلى ويحتمل أن يكون * (إلى) * متعلقا بمحذوف أي منتهيا * (إلى الارض) * فيكون في موضع الحال، ولا تضمين في * (ونجينا) * على هذا و * (الارض) * التي خرجا منها هي كوثى من أرض العراق، والأرض التي صار إليها هي أرض الشام وبركتها ما فيها من الخصب والأشجار والأنهار وبعث أكثر الأنبياء منها. وقيل: مكة قاله ابن عباس، كما قال * (إن أول بيت) * الآية. وقيل أرض مصر وبركتها نيلها وزكاة زروعها وعمارة مواضعها.
وروي أن إبراهيم خرج مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وكان ابن أخيه، فآمنت به سارة وهي ابنة عمه فأخرجها معه فارا بدينه، وفي هذه الخرجة لقي الجبار الذي رام أخذها منه فنزل حران ومكث زمانا بها. وقيل: سارة ابنة ملك حران تزوجها إبراهيم وشرط عليه أبوها أن لا يغيرها، والصحيح أنها ابنة عمه هاران الأكبر، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب فبعثه الله نبيا. والنافلة العطية قاله مجاهد وعطاء أو الزيادة كالمتطوع به إذا كان إسحاق ثمرة دعائه رب هب لي من الصاحين، وكان * (يعقوب) * زيادة من غير دعاء. وقيل: النافلة ولد الولد فعلى الأول يكون مصدرا كالعاقبة والعافية وهو من غير لفظ * (وهبنا) * بل من معناه، وعلى الآخرين يراد به * (يعقوب) * فينتصب على الحال، و * (كلا) * يشمل من ذكر إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب.
* (يهدون بأمرنا) * يرشدون الناس إلى الدين. و * (أئمة) * قدوة لغيرهم.
* (وأوحينا إليهم) * أي خصصناهم بشرف النبوة لأن الإيحاء هو التنبئة. قال الزمخشري: * (فعل الخيرات) * أصله أن يفعل * (فعل الخيرات) * ثم فعلا الخيرات وكذلك * (صالحين وجعلناهم أئمة يهدون) * انتهى. وكان الزمخشري لما رأى أن * (فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتاء الزكواة) * ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون، بنى الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافا من حيث المعنى إلى ضمير الموحى، فلا يكون التقدير فعلهم الخيرات وإقامهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع الصمدر محذوف، ويجوز أن يكون مضافا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم، أي فعل المكلفين الخيرات، ويجوز أن يكون ذلك مضافا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه، فليس ما اختاره الزمخشري مختارا.
وقال ابن عطية: والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى. وأي نظر في هذا وقد
(٣٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 300 301 302 303 304 305 306 307 308 309 310 ... » »»