تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٠٨
قدمت * (الجبال) * على * (الطير) *؟ قلت: لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق انتهى. وقوله: ناطق إن عنى به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنسانا، وإن عنى أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عنى به مصوت أي له صوت، ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها.
وقوله * (وكنا فاعلين) * أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا * (وعلمناه صنعة لبوس لكم) * اللبوس الملبوس فعول بمعنى مفعول كالركوب بمعنى المركوب، وهو الدرع هنا. واللبوس ما يلبس. قال الشاعر:
* عليها أسود ضاريات لبوسهم * سوابغ بيض لا يخرقها النبل * قال قتادة: كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داوود فجمعت الخفة والتحصين. وقيل: اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وبيضة وما يجري مجرى ذلك، وداود أول من صنع الدروع التي تسمى الزرد. قيل: نزل ملكان من السماء فمرا بداود فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل إلا أنه يأكل من بيت المال، فسأل الله أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدروع امتن تعالى عليه بإيتائه حكما وعلما وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس، وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى.
ثم امتن علينا بها بقوله * (لتحصنكم من بأسكم) * أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوكم. وقرئ * (لبوس) * بضم اللام والجمهور بفتحها. وقرأ الجمهور: ليحصنكم بياء الغيبة أي الله فيكون التفاتا إذ جاء بعد ضمير متكلم في * (وعلمناه) * ويدل عليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالنون وهي قراءة أبي حنيفة ومسعود بن صالح ورويس والجعفي وهارون ويونس والمنقر كلهم عن أبي عمرو ليحصنكم داود، واللبوس قيل أو التعليم. وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن علي بالتاء أي * (لتحصنكم) * الصنعة أو اللبوس على معنى الدرع ودرع الحديد مؤنثة وكل هذه القراءات الثلاث بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء من تحت وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب والأعمش بالتاء من فوق والتشديد واللام في * (لكم) * يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناه، أي لأجلكم وتكون * (لتحصنكم) * في موضع بدل أعيد معه لام الجر إذ الفعل منصوب بإضمار إن فتتقدر بمصدر أي * (لكم) * لإحصانكم * (من بأسكم) * ويجوز أن تكون * (لكم) * صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم، واحتمل أن يكون ليحصنكم تعليلا للتعليم فيتعلق بعلمناه، وأن يكون تعليلا للكون المحذوف المتعلق به * (لكم) * * (فهل أنتم شاكرون) * استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم كقوله * (فهل أنتم منتهون) * أي انتهوا عما حرم الله.
ولما ذكر تعالى ما خص به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خص به ابنه سليمان عليه السلام، فقال * (ولسليمان الريح) * وجاء التركيب هنا حين ذكر تسخير الريح لسليمان باللام، وحين ذكر تسخير الجبال جاء بلفظ مع فقال * (وسخرنا مع * داوود * الجبال) * وكذا جاء * (فضلا ياجبال أوبى معه) * وقال فسخرنا له الريح تجري بأمره، وذلك أنه لما اشتركا في التسبيح ناسب ذكر مع الدالة على الاصطحاب، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره. وقرأ الجمهور * (الريح) * مفردا بالنصب. وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفردا. وقرأ الحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع والنصب. وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة فالنصب على إضمار سخرنا، والرفع على الابتداء و * (عاصفة) * حال العامل فيها سخرنا في قراءة من نصب * (الريح) * وما يتعلق به الجار في قراءة من رفع ويقال: عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة، ولغة أسد أعصفت فهي
(٣٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 ... » »»