تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٠٤
أبدى لهم التضجر منهم ومن معبوداتهم وتقدم الخلاف في قراءة * (أف) * واللغات فيها واللام في * (لكم) * لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم، هذا التأفف ثم نبههم على ما به يدرك حقائق الأشياء وهو العقل فقال: * (أفلا تعقلون) * أي قبح ما أنتم عليه وهو استفهام توبيخ وإنكار.
* (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا ياذا * نار * كونى بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الارض التى باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتاء الزكواة وكانوا لنا عابدين * ولوطا اتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه فى رحمتنا إنه من الصالحين * ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بئاياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين * وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الارض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذالك وكنا لهم حافظين) *.
ولما نبههم على قبيح مرتكبهم وغلبهم بإقامة الحجة عليهم لاذوا بالإيذاء له والغضب لآلهتهم واختاروا أشد العذاب وهو الإحراق بالنار التي هي سبب للإعدام المحض والإتلاف بالكلية وكذا كل من أقيمت عليه الحجة وكانت له قدرة يعدل إلى المناصبة والإذابة كما كانت قريش تفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) حين دمغهم بالحجة وعجزوا عن معارضة ما آتاهم به عدلوا إلى الانتقام وإيثار الاغتيال، فعصمه الله والظاهر أن قول * (قالوا حرقوه) * أي قال بعضهم لبعض. وقيل: أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: رجل من أعراب العجم. قال الزمخشري: يريد الأكراد. وقال ابن عطية: روي أنه رجل من الأكراد من أعراب فارس أي باديتها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وذكروا لهذا القائل اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة لكونه ليس مضبوطا بالشكل والنقط، وهكذا تقع أسماء كثيرة أعجمية في التفاسير لا يمكن الوقوف منها على حقيقة لفظ لعدم الشكل والنقط فينبغي اطراح نقسها.
وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثي واختلفوا في عدة حبسه وفي عرض الحظيرة وطولها، ومدة جمع الحطب، ومدة الإيقاد، ومدة سنه إذ ذاك، ومدة إقامته في النار وكيفية ما صارت أماكن النار اختلافا متعارضا تركنا ذكره واتخذوا منجنيقا. قيل: بتعليم إبليس إذ كان لم يصنع قبل فشد إبراهيم رباطا ووضع في كفة المنجنيق ورمى به فوقع في النار. وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وذكر المفسرون أشياء صدرت من الورغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط الله أعلم بذلك. وعن ابن عباس: إنما نجا بقوله حسبي الله ونعم الوكيل. قيل: وأطل نمروذ من الصرح فإذا إبراهيم في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال إني مقرب إلى آلهك فذبح أربعة آلاف بقرة. وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة، وقد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه ألقي في النار فجعلها الله عليه * (بردا وسلاما) * وخرج منها سالما فكانت أعظم آية والظاهر أن القائل * (قلنا ياذا * نار) * هو الله تعالى. وقيل: جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. وعن ابن عباس: لو لم يقل: * (وسلاما) * لهلك إبراهيم من البرد، ولو لم يقل على إبراهيم لما أحرقت نار بعدها ولا اتقدت انتهى. ومعنى * (وسلاما) * سلامة، وأبعد من ذهب إلى أنها هنا تحية من الله ولو كانت تحية لكان الرفع أولى بها من
(٣٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 299 300 301 302 303 304 305 306 307 308 309 ... » »»