تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٠٧
إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عنا شيئا، فلذلك جاء جوابهم: لو هدانا الله لهديناكم، أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد الهداية لله تعالى، وهو كلام حق في نفسه. وقال الزمخشري: من الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معا بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء، هو بعض عذاب الله أي: بعض بعض عذاب الله انتهى. وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله: من شيء على قوله: من عذاب الله، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله: من عذاب الله. ومن التبيينية يتقدم عليها ما تبينه، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني، وهو بعض شيء، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلا، فيكون بدل عام من خاص، لأن من شيء أعم من قوله: من عذاب الله، وإن عنى بشيء شيئا من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر، وهو بعض بعض عذاب الله. وهذا لا يقال، لأن بعضية الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض. ونص الحوفي، وأبو البقاء: على أن من في قوله: من شيء، زائدة. قال الحوفي: من عذاب الله متعلق بمغنون، ومن في من شيء لاستغراق الجنس، زائدة للتوكيد. وقال أبو البقاء: ومن زائدة أي: شيئا كائنا من عذاب الله، ويكون محمولا على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئا؟ ويجوز أن يكون شيء واقعا موقع المصدر أي: غنى فيكون من عذاب الله متعلقا بمغنون انتهى. ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام، فكان الاستفهام دخل عليه وباشره، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب: فهل تغنون. وقال الزمخشري: أجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم، ولم يضلوهم إما مدركين الذنب في ضلالهم، وإضلالهم على الله كما حكى الله عنهم. وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا، ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شىء) * انتهى. وحكى أبو عبد الله الرازي عن الزمخشري أنهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء. قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة، فكان هذا القول منه مخالفا لأصول مشايخه، لا يقبل منه. وقال الزمخشري أيضا: ويجوز أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا. واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. قال أبو عبد الله الرازي: وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف، لأن ذلك قد فعله الله. وقيل: لو خلصنا الله من العذاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم. وقال الزمخشري في بسط هذا القول: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، كما سلكنا بكم سبيل الهلكة انتهى. وقيل: ويدل على أن المراد بالهدى الهدى إلى طريق الجنة، أنه هو الذي التمسوه وطلبوه، فوجب أن يكون المراد. وقال ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم. والظاهر أن قوله: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى آخره، داخل تحت قول المستكبرين، وجاء تجمله بلا واو عطف، كأن كل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة، وإن كانت مرتبطا بعضها ببعض من جهة المعنى لأن سؤالهم: هل أنتم مغنون عنا؟ إنما كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا ذلك: سووا بينهم، وبينهم في ذلك لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر. ولما قالوا: لو هدانا الله، أتبعوا ذلك بالإقناط من النجاة فقالوا: ما لنا من محيص: أي منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. وقيل: سواء علينا من كلام الضعفاء والذين استكبروا والتقدير: قالوا جميعا سواء علينا يخبرون عن حالهم. وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في أول البقرة، والظاهر أن هذه المحاورة بين الضعاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله. وعن محمد بن كعب،
(٤٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 402 403 404 405 406 407 408 409 410 411 412 ... » »»