تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٠٨
وابن زيد: أن قولهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، بعد صبرهم في النار خمسمائة عام، وبعد جزعهم مثلها.
* (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة، ذكر محاورة الشيطان وأتباعه من الإنس، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس بالإضلال. والشيطان هنا إبليس، وهو رأس الشياطين. وفي حديث الشفاعة من حديث عقبة بن عامر: (أن الكافرين يقولون: وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا، فيقولون: ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ويقول عند ذلك: إن الله قد وعدكم) الآية وعن الحسن: يقف إبليس خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا فيقول: إن الله وعدكم وعد الحق، يعني: البعث، والجنة، والنار، وثواب المطيع، وعقاب العاصي، فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب، فأخلفتكم. قضي الأمر تعين قوم للجنة وقوم للنار، وذلك كله في الموقف، وعليه يدل حديث الشفاعة أو بعد حصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ويدل عليه ما ذكرناه عن الحسن، وهو تأويل الطبري. وقيل: قضي الأمر قطع وفرع منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين إلى مقربهما. ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي: الوعد الحق، وأن يكون الحق صفة الله أي: وعده، وأن يكون الحق الشيء الثابت وهو البعث والجزاء على الأعمال أي: فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم، وإلا أن دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع، لأن دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان، وهو الحجة البينة. قيل: ويحتمل أن يريد بالسلطان الغلبة والتسليط والقدرة أي: ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة، بل عرضت عليكم شيئا فأتى رأيكم عليه. وقيل: هو استثناء متصل، لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة يكون بالقهر من الحامل، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط. وقيل: وظاهر هذا الكلام يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه، وإزالة عقله، فلا تلوموني. وقرئ: فلا يلوموني بالياء على الغيبة، وهو التفات يريد في ما آتيتموه من الضلال، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم واستجابتكم لدعائي من غير تثبت ولا حجة. وقال الزمخشري: ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم، وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإن الله قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه انتهى. وهو على طريق الاعتزال.
ما أنا بمصرخكم قال ابن عباس: بنافعكم. وقال ابن جبير: بمنقذكم، وقال الربيع: بمنجيكم، وقال مجاهد: بمغيثكم، وكلها أقوال متقاربة. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة: بمصرخي بكسر اللياء، وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء: لعلها من وهم القراء، فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أن الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله، والباء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا، ظنوا أن الباء تكسر لما بعدها. وقال الأخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب، ولا من النحويين. وقال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال النحاس: صار هذا إجماعا، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ. وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
(٤٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 403 404 405 406 407 408 409 410 411 412 413 ... » »»