تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٦٤
الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة. ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى. يعني أن دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه. قال ابن خروف: أجاز سيبويه الإتيان بما، وأن لا يؤتى بها، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها، والإراءة هنا بصرية، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين، والكاف خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). وبعض الذي نعدهم يعني: من العذاب في الدنيا. وقد أراه الله تعالى أنواعا من عذاب الكفار في الدنيا قتلا وأسرا ونهبا للأموال وسبيا للذراري، وضرب جزية، وتشتيت شمل بالجلاء إلى غير بلادهم، وما يحصل لهم في الآخرة أعظم، لأنه العذاب الدائم الذي لا ينقطع. والظاهر أن جواب الشرط هو قوله: فإلينا مرجعهم، وكذا قاله الحوفي وابن عطية. قال ابن عطية: ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تبارك وتعالى أي: إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليمهم على جميع أعمالهم. فثم هاهنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في أنفسها. وقال الزمخشري: فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه، فنحن نريك في الآخرة انتهى. فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف، لأن قوله: فإلينا مرجعهم صالح أن يكون جوابا للشرط والمعطوف عليه. وأيضا فقول الزمخشري: فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد. وقرأ ابن أبي عبلة: ثم الله بفتح الثاء أي: هنالك. ومعنى شهادة الله على ما يفعلون مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقبهم، وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة. ويجوز أن يكون المعنى أنه تعالى مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.
* (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *: لما بين حال الرسول صلى الله عليه وسلم) في قومه بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، تسلية له وتظمينا لقلبه. ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة، بل بعث إليها رسولا كما قال تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * وقوله: فإذا جاء رسولهم، إما أن كون إخبارا عن حالة ماضية فيكون ذلك في الدنيا، ويكون المعنى: أنه بعث إلى كل أمة رسولا يدعوهم إلى دين الله وينبئهم على توحيده، فلما جاءهم بالبينات كذبوه، فقضى بينهم أي: بين الرسول وأمته، فأنجى الرسول وعذب المكذبون. وإما أن يكون على حالة مستقبلة أي: فإذا جاءهم رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم قضى بينهم، أي: بين الأمة بالعدل، فصار قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، فهذا هو القضاء بينهم قاله: مجاهد وغيره. ويكون كقوله تعالى: * (وجىء بالنبيين والشهداء * وقضى بينهم) *.
* (ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين) *: الضمير في ويقولون، عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الشحر، استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد، أو على سبيل الاستخفاف، ولذلك قالوا: إن كنتم صادقين أي: لستم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شيء منه. وقولهم: هذا ليشهد للقول الأول في الآية قبلها، وأنها حكاية حال ماضية. وأن معنى ذلك: فإذا جاءهم الرسول وكذبوه قضى بينهم في الدنيا، وأن كل رسول وعد أمته بالعذاب في الدنيا وإن هي كذبت.
* (قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون) *: لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة، أمره عليه السلام أن يقول لهم: ليس ذلك إلي، بل ذلك إلى الله تعالى. وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فكيف أملكه لغيري؟ أو كيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله؟ ولكن لكل أمة أجل انفرد بعلمه تعالى. وتقدم الكلام على نظير قوله لكل أمة
(١٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 159 160 161 162 163 164 165 166 167 168 169 ... » »»