تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٥٩
محذوف، والتقدير: ولكن أنزل للتصديق. وقيل: انتصب على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف. وقرأ عيسى بن عمر: تفصيل وتصديق بالرفع، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي: ولكن هو تصديق. كما قال الشاعر:
* ولست الشاعر السفساف فيهم * ولكن مده الحرب العوالي * أي ولكن أنا. وزعم الفراء ومن تابعه أن العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف. وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل: ولكن تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب، كائنا من رب العالمين. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه في ذلك، فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل، ويكون لا ريب فيه اعتراضا كما تقول: زيد لا شك فيه كريم انتهى. فقوله: فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل، إنما يعني من جهة المعنى، وأما من جهة في البقرة في قوله: * (ذالك الكتاب لا ريب فيه) * وجمع بينه وبين قوله: * (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا) *.
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) *: لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى، بل جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب وبيانا لما فيها، ذكر أعظم دليل على أنه من عند الله وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه، وتقدم الكلام على ذلك مشبعا في البقرة في قوله: * (وإن كنتم فى ريب) * الآية. وأم متضمنة معنى بل، والهمزة على مذهب سيبويه أي: أيقولون اختلقه. والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد. وقالت فرقة: أم هذه بمنزلة همزة استفهام. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو ومجازه، ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير أيقولون. وقيل: أم هي المعادلة للهمزة، وحذفت الجملة قبلها والتقدير: أيقرون به أم يقولون افتراه. وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال: قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى. والضمير في مثله عائد على القرآن أي: بسورة مماثلة للقرآن، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز.
وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي: بسورة كتاب أو كلام مثله أي: مثل القرآن. وقال صاحب اللوامح: هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي: بصورة بشر مثله، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي العامة إلى القرآن. وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دونن الله أي: من غير الله، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله، فلا تستعينوه وحده، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه. وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا: لأنه تحدى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي به. وقال أبو عبد الله الرازي: مراتب التحدي بالقرآن ست تحد بكل القرآن في: * (قل لئن اجتمعت) * الآية، وتحد بعشر سور، وتحد بسورة واحدة، وتحد بحديث مثله في قوله: * (فليأتوا بحديث مثله) * وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصا
(١٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 ... » »»