تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٦٢
انتفاء العقل، فجرى بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة، بخلاف أن لو كان الأصم عاقلا فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء. وأعاد في قوله: ومنهم من ينظر إليك الضمير مفردا مذكرا على لفظ من، وهو الأكثر في لسان العرب. والمعنى: أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل فقد فقدوه، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ من كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذه قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة. وقوله: أفأنت: تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم)، وأن لا يكترث بعدم قبولهم، فإن الهداية إنما هي لله. قال ابن عطية: جاء ينظر على لفظ من، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى. وليس كما قال، بل يجوز أن تراعى المعنى أولا فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفردا مذكرا، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. والمقصود من الآيتين: إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة، لأن من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق، فقد أيس من هداية هؤلاء. وقال الشاعر:
* وإذا خفيت على المعني فعاذر * أن لا تراءى مقلة عمياء * ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئا، إذ قد أزاح عللهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه، ولكن هم ظالمو أنفسهم بالكفر والتكذيب. واحتمل هذا النفي للظلم أن يكون في الدنيا أي: لا يظلمهم شيئا من مصالحهم، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل. وتقدم خلاف القراء في، ولكن الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع.
* (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا) *: قرأ الأعمش وحفص: يحشرهم بالياء راجعا الضمير غائبا عائدا على الله، إذ تقدم * (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى: كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني: فقليل لبثهم، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب. قال ابن عباس: رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. قال ابن عطية: ويوم ظرف، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره: واذكر. ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار، ويصح نصبه بيتعارفون، والكاف من
(١٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 157 158 159 160 161 162 163 164 165 166 167 ... » »»