تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٤٢٣
ثم أوتيها أيضا ضالا لم تنفعه فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه أو تركه دون حمل عليه، وقال السدي وغيره هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب، وقال الزمخشري: وكان حق الكلام أن يقال ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته فوقع قوله: فمثله كمثل الكلب موقع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأرذلها في معنى ذلك انتهى وفي قوله وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى وأما قوله فوقع قوله فمثله إلى آخره فليس واقعا موقع ما ذكر لكن قوله ولكنه أخلد إلى الأرض وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال فانسلخ منها وقال: ولكنه أخلد إلى الأرض والله تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله فأردت أن أعيبها وقوله: فأراد ربك أن يبلغا في نسبة ما كان حسنا إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثا في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء، وقال بعض شراح كتاب المصباح: وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال فلا يقال جاءني زيد إن يسأل يعظ على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبرا عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخل من أن يعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمر فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله أأنذرتهم أم لم تنذرهم وأما الثاني فلا بد من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتني ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله * (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) * من قبيل الأول لأن الحمل عليه والترك نقيضان.
* (ذالك مثل القوم الذين كذبوا باياتنا) * أي ذلك الوصف وصف الذين كذبوا بآياتنا صفته كصفة الكلب لاهثا في الحالتين فكما شبه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخس حالاته كذلك شبه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها واحتمل ذلك أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أن تكون محذوفة من مثل القوم أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل الذين كذبوا بآياتنا ويكون أبلغ في ذم المكذبين حيث جعلوا أصلا وشبه بهم، قال ابن عطية: أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك فمثلهم كمثل الكلب، وقال الزمخشري: كذبوا بآياتنا من اليهود بعدما قرأوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم) في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا بستفتحون به، وقال ابن عباس: يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لا يشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل الكلب الذي يلهث على كل حال انتهى، وتلخص أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عام أم خاص باليهود أم بكفار مكة أقوال ثلاثة
(٤٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 418 419 420 421 422 423 424 425 426 427 428 ... » »»