تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣٤٩
وجوز أيضا أن يكون الذين كذبوا صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلا منه وعلى هذين الوجهين يكون * (كان) * حالا انتهى، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب. * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * هذا أيضا مبتدأ وخبره، وقال الزمخشري: وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا * (لنخرجنك ياشعيب * شعيب) * فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا: * (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) * فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب * (الذين) * هنا أن يكون بدلا من الضمير في * (يغنوا) * أو منصوبا بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل. * (فتولى عنهم وقال ياقوم * قوم * لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم) * تقدم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام. * (فكيف ءاسى على قوم كافرين) * أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءى نارا هما وكأنه وجد في نفسه رقة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرسل وعلى المناوأة الشديدة حتى لا يساكنواه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه وهو عودهم إلى ملتهم، قال مكي: وسار شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها وقرأ ابن وثاب وابن مصرف والأعمش إيسي بكسر الهمزة وهي لغة تقدم ذكرها في الفاتحة.
* (وما أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون) * لما ذكر تعالى ما حل بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصروا على تكذيبهم وجاء بعد إلا فعل ماض وهو * (أخذنا) * ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله * (أخذنا) * حالية أي إلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرغ من الأحوال وتقدم تفسير نظير قوله * (إلا أخذنا) * إلى آخره. * (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) * أي مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السراء والنعمة، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة مكان الشدة الرخاء، وقيل مكان الشر الخير ومكان و * (الحسنة) * مفعولا بدل و * (مكان) * هو محل الباء أي بمكان السيئة وفي لفظ * (مكان) * إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم * (مكان) * ظرفا أي في مكان * (حتى عفوا) * أي كثروا وتناسلوا، وقال مجاهد: كثرت أموالهم وأولادهم، وقال ابن بحر حتى أعرضوا من عفا عن ذنبه أي أعرض عنه، وقال الحسن: سمنوا، وقال قتادة سروا بكثرتهم وذلك استدراج منه لهم لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا ويزدجروتا فلم يفعلوا ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا. * (وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسراء) * أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا هذه عادة الدهر ضراء وسراء وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلا لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر. * (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) * تقدم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين
(٣٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 344 345 346 347 348 349 350 351 352 353 354 ... » »»