تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ١٩٩
الزمخشري: والمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيئات * (وهو يدرك الابصار) * وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك.
* (وهو اللطيف الخبير) * يلطف عن أن تدركه الأبصار الخبير بكل لطيف * (وهو يدرك الابصار) * لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللف انتهى، وهو على مذهبه الاعتزالي وتظافرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) برؤية المؤمنين الله في الآخرة، وقد اختلفوا هل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الدنيا ببصره ليلة المعراج؟ فذهب جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين إلى إنكار ذلك، وقالت عائشة وابن مسعود وأبو هريرة على خلاف عنهما بذلك، وذهب ابن عباس وكعب والحسن وعكرمة وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وجماعة من الصحابة إلى أنه رآه ببصره وعيني رأسه، وروي هذا عن ابن مسعود وأبي هريرة والأول عن ابن مسعود أشهر، وقيل: * (وهو يدرك الابصار) * معناه لا يخفى عليه شيء وخص الأبصار لتجنيس الكلام يعني المقابلة، وقال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر الذي صار به الإنسان مبصرا من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه: * (وهو اللطيف الخبير) * قال أبو العالية: لطيف باستخراج الأشياء خبير بأماكنها.
* (قد جاءكم بصائر من ربكم) * هذا وارد على لسان الرسول لقوله آخره * (وما أنا عليكم بحفيظ) * والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به كما أن البصر نور العين الذي به تبصرأي جاءكم من الوحي والتنبيه بما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر قاله الزمخشري، وقال ابن عطية: البصيرة هي ما ينقب عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار فكأنه قال: قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، وقال الحوفي: البصيرة الحجة البينة الظاهرة كما قال تعالى: * (ادعوا * إلى الله على بصيرة) * * (بل الإنسان على نفسه بصيرة) *، وقال الكلبي: البصائر آيات القرآن التي فيها الإيضاح والبينات والتنبيه على ما يجوز عليه وعلى ما يستحيل وإسناد المجيء إلى البصائر مجاز لتفخيم شأنها إذا كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره كما يقال جاءت العافية.
* (فمن أبصر فلنفسه) * أي فالإبصار لنفسه أي نفعه وثمرته.
* (ومن عمى فعليها) * أي فالعمى عليها أي فجدوى العمى عائد على نفسه والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال، والمعنى أن ثمرة الهدى والضلال إنما هي للمهتدي والضال لأنه تعالى غني عن خلقه، وهي من الكنايات الحسنة لما ذكر البصائر أعقبها تعالى بالإبصار والعمى وهذه مطابقة، وقدره الزمخشري * (فمن أبصر) * الحق وآمن * (فلنفسه) * أبصر وإياها نفع * (ومن عمى) * عنه فعلى نفسه عمي والذي قدرناه من المصدر أولى وهو فالإبصار والعمى لوجهين: أحدهما: أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة، وفي تقديره هو المحذوف جملة والجار والمجرور فضلة، والثاني: وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت من شرطا أم موصولة مشبهة بالشرط لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامدا ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ، لو قلت: من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء ولا يجوز حذفها إلا في الشعر وقال أبو عبد الله الرازي: البصيرة اسم الإدراك التام الحاصل في القلب والآيات المتقدمة ليست في أنفسها
(١٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 194 195 196 197 198 199 200 201 202 203 204 ... » »»