تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٩٤
إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى بصحراء فلج ظلتا تكفان فقال: ظلتا ولم يقل: ظلت تكف. وقرأ الباقون: يغشى بالياء، حمله على لفظ النعاس.
* (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شىء قل إن) * قال مكي: أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون، وقالوا: غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص، فكان سببا لأمنهم وثباتهم. وعرى منه أهل النفاق والشك، فكان سببا لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى.
ويقال: أهمني الشيء، أي: كان من همي وقصدي. أي: مما أهم به أو قصد. وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم، أي الغم. فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم. فقال قتادة والربيع وابن إسحاق وأكثرهم: هو بمعنى الغم، والمعنى: أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل، وهذا معنى قول الزمخشري: أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان، فهم في التشاكي. وقال بعض المفسرين: هو من هم بالشيء أراد فعله. والمعنى: أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين. وهذا القول من قال: قد قتل محمد فنلرجع إلى ديننا الأول، ونحو هذا من الأقوال. وقال الزمخشري في قوله: قد أهمتهم أنفسهم، ما بهم إلا هم أنفسهم، لا هم الدين، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمسلمين انتهى. فيكون من قولهم: أهمني الشيء أي: كان من همي وإرادتي. والمعنى: أهمهم خلاص أنفسهم خاصة، أي: كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق، وأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) يذهب ويزول.
ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور: المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، كما قال: * (حمية الجاهلية) * * (ولا تبرجن تبرج الجاهلية) * وكما تقول: شعر الجاهلية. وقال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا. وقال بعض المفسرين: المعنى ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، ونحا إلى هذا القول: قتادة والطبري. قال مقاتل: ظنوا أن أمره مضمحل. وقال الزجاج: إن مدته قد انقضت. وقال الضحاك عن ابن عباس: ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم) قد قتل. وقيل: ظن الجاهلية إبطال النبوات والشرائع. وقيل: يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة. وقيل: يظنون أن الحق ما عليه الكفار، فلذلك نصروا. وقيل: كذبوا بالقدر. قال الزمخشري: وظن الجاهلية كقولك: خاتم الجود ورجل صدق، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله. انتهى وظاهر قوله: هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام؟ فقيل: سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم)، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدو شي أي نصيب؟ وأجيبوا بقوله: * (قل إن الامر كله لله) * وهو النصر والغلبة. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، وأن جندنا لهم الغالبون. وقيل: المعنى ليس النصر لنا، بل هو للمشركين. وقال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي بن سلول: قتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ يريد: أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا. وهذا منهم قول بأجلين. وذكر المهدوي وابن فورك: أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد. ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله: قل. فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد.
وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي. ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله: من شيء، جاء الكلام مؤكدا بأن، وبولغ في توكيد العموم بقوله: كله لله. فكان الجواب أبلغ.
والخطاب بقوله: قل، متوجه إلى الرسول بلا خلاف.
(٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 ... » »»