تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٤٧
كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى. وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهل السنة، ومن عدا المعتزلة. ومن غلوا اليهود إنكار نبوة عيسى، وادعاؤهم فيه أنه الله. ومن غلو النصارى ما تقدم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة. وانتصاب غير هنا على الصفة أي: غلوا غير الحق. وأبعد من ذهب إلى أنها استثناء متصل، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره: لكن الحق فاتبعوه.
* (ولا * تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) * هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيرا، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلا إفراط ولا تفريط، بل هو سواء معتدل خيار. وقيل: الخطاب للنصارى، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال: قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم)، وأضلوا كثيرا ممن شايعهم على التثليث، وضلوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه. وقال ابن عطية: هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل، بل هم في الضد بالأقوال، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى. فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج: هذه الطريقة طريقة فلان تمثله بآخر قد اعوج نوعا من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله. ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما، وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله: وضلوا عن سواء السبيل. وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى: يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل أي: ضل أسلافهم، وهم قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم)، وأضلوا كثيرا من المنافقين، وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق انتهى. ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي: اليهود، والنصارى. وأن قوله: ولا تتبعوا أهواء قوم، هم أسلافهم. فإن الزائغ عن الحق كثيرا ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته، كما قالوا: * (بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا) * فنهوا عن اتباع أسلافهم، وكان في تنكير قوم تحقير لهم. وما ذهب إليه الزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه. وما ذهب إليه ابن عطية أيضا تخصيص وتأويل بعيد في قوله: ولا تتبعوا أهواء قوم أن المراد بهم اليهود، وأن المعنى: لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى، لأن الظاهر النهي عن اتباع أهواء أولئك القوم. وأبعد من ذهب إلى أن الضلال الأول عن الدين، والثاني عن طريق الجنة.
* (لعن الذين كفروا من بنى إسراءيل على لسان * داوود * وعيسى ابن مريم) * قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان. لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد محمد في القرآن. وروى ابن جريج: أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود مر على نفروهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الاحتجاب، قال: اللهم خنازير، فكانوا خنازير. ثم دعا عيسى على من افترى عليه وعلى أمه ولعنهم. وروي عن ابن عباس: لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة. وقال أكثر المفسرين: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة
(٥٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 540 541 542 543 544 545 546 547 548 549 550 » »»