تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٢٥
الكافرين، ولأن الخوف أعظم من الجهاد، فكان ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى. ويحتمل أن تكون الواو في: ولا يخافون، واو الحال أي: يجاهدون، وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله، لا يخافون لومة لائم. ولومة للمرة الواحدة وهي نكرة في سياق النفي. فتعم أي: لا يخافون شيئا قط من اللوم.
* (ذالك فضل الله يؤتيه من يشاء) * الظاهر أن ذلك إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف التي تحلى بها المؤمن. ذكر أن ذلك هو فضل من الله يؤتيه من أراد، ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه، بل ذلك على سبيل الإحسان منه تعالى لمن أراد الإحسان إليه. وقيل: ذلك إشارة إلى حب الله لهم وحبهم له. وقيل: إشارة إلى قوله: أذلة على المؤمنين، وهو لين الجانب، وترك الترفع على المؤمن. قال الزمخشري: يؤتيه من يشاء ممن يعلم أن لطفا انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. ويؤتيه استئناف، أو خبر بعد خبر أو حال.
* (والله واسع عليم) * أي واسع الإحسان والإفضال عليم بمن يضع ذلك فيه.
* (إنما وليكم الله ورسوله) * لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، بين هنا من هو وليهم، وهو الله ورسوله. وفسر الولي هنا بالناصر، أو المتولي الأمر، أو المحب. ثلاثة أقوال، والمعنى: لا ولي لكم إلا الله. وقال: وليكم بالأفراد، ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعددا، لأن وليا اسم جنس. أو لأن الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل، ثم نظم في سلكه من ذكر على سبيل التبع، ولو جاء جمعا لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية. وقرأ عبد الله: مولاكم الله. وظاهر قوله: والذين آمنوا، عموم من آمن من مضى منهم ومن بقي قاله الحسن. وسئل الباقر عمن نزلت فيه هذه الآية، أهو على؟ فقال: علي من المؤمنين. وقيل: الذين آمنوا هو علي رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، ويكون من إطلاق الجمع على الواحد مجازا. وقيل ابن سلام وأصحابه. وقيل: عبادة لما تبرأ من حلفائه اليهود. وقيل: أبو بكر رضي الله عنه، قاله عكرمة.
* (والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون) * هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة. قال تعالى: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * وقال تعالى: * (أشحة على الخير) * ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية من مقيمي صلاة ومؤتي زكاة، وفي كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله تعالى والتذلل له، نزلت الآية بهذه الأوصاف الجليلة. والركوع هنا ظاهره الخضوع، لا الهيئة التي في الصلاة. وقيل: المراد الهيئة، وخصت بالذكر لأنها من أعظم أركان الصلاة، فعبر بها عن جميع الصلاة، إلا أنه يلزم في هذا القول تكرير الصلاة لقوله: يقيمون الصلاة. ويمكن أن يكون التكرار على سبيل التوكيد لشرف الصلاة وعظمها في التكاليف الإسلامية. وقيل: المراد بالصلاة هنا الفرائض، وبالركوع التنفل. يقال: فلان يركع إذا تنفل بالصلاة. وروي أن عليا رضي الله عنه تصدق بخاتمه وهو راكع في الصلاة. والظاهر من قوله: وهم راكعون، أنها جملة اسمية معطوفة على الجمل قبلها، منتظمة في سلك الصلاة. وقيل: الواو للحال أي: يؤتون الزكاة وهم خاضعون لا يشتغلون على من يعطونهم إياها، أي يئتونها فيتصدقون وهم ملتبسون بالصلاة. وقال الزمخشري. (فإن قلت): الذين يقيمون ما محله؟ (قلت): الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على هم الذين يقيمون انتهى. ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن، لأن المبدل منه في نية الطرح، وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف.
* (ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون) * يحتمل أن يكون جواب من محذوفا لدلالة ما بعده عليه، أي: يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون
(٥٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 520 521 522 523 524 525 526 527 528 529 530 ... » »»