سمعوا الآذان وقالوا: ابتدعت شيئا لم يكن للأنبياء، فمن أين لك الصياح كصياح العير؟ فما أقبحه من صوت. فأنزل الله هذه الآية. وأنزل: * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * الآية انتهى. والمعنى: إذا نادى بعضكم إلى الصلاة، لأن الجميع لا ينادون. ولما قدم أنهم الذين اتخذوا الدين هزوا ولعبا اندرج في ذلك جميع ما انطوى عليه الدين، فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، فنبه على أن من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ وليا ويطرد، فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها. وقال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب، لا بالمنام وحده انتهى. ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال وإذا ناديتم، ولم يقل نادوا على سبيل الأمر، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط. والظاهر أن الضمير في اتخذوها عائد على الصلاة، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من ناديتم أي: اتخذوا المناداة والهزء والسخرية واللعب الأخذ في غير طريق.
* (ذالك بأنهم قوم لا يعقلون) * أي ذلك الفعل منهم، ونفي العقل عنهم لما لم ينتفعوا به في الدين، واتخذوا دين الله هزوا ولعبا، فعل من لا عقل له.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب * هل تنقمون منا إلا أن ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) * قال ابن عباس: أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: أؤمن بالله: * (وما أنزل إلينا) * إلى قوله: * (ونحن له مسلمون) * فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى، ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فنزلت. والمعنى: هل تعيبون علينا، أو تنكرون، وتعدون ذنبا، أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيبا ونظيره قول الشاعر:
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب * والخطاب قيل: للرسول، وهو بمعنى ما النافية. وقرأ الجمهور: تنقمون بكسر القاف، والماضي نقم بفتحها، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح. ونقم بالكسر، ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي وغيره. وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم، وفسر تنقمون بتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة. وإلا أن آمنا استثناء فرغ له الفاعل. وقرأ الجمهور: أنزل مبنيا للفاعل، وذلك في اللفظين، وقرأهما أبو نهيك: مبنيين للفاعل، وقرأ نعيم بن ميسرة: وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة، وهو واضح المعنى، أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم. وقرأ الجمهور: بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها في موضع رفع، وفي موضع نصب، وفي موضع جر. فالرفع على الابتداء. وقدر الزمخشري الخبر مؤخرا محذوفا أي: وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق، وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف. ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدما أي: ومعلوم فسق أكثركم، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط. والنصب من وجوه: أحدها: أن يكون معطوفا على أن آمنا أي: ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم، فيدخل الفسق فيما نقموه، وهذا قول أكثر المتأولين. ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم، فكيف ينقمونه، لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون، كما تقول: ما تنقم مني إلا أني صدقت وأنت كذبت، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض، وكأنه قيل: ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في