تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٨٧
لأن لفظ المؤمن متى أطلق لا يتناول إلا المسلم. وقيل: للمنافقين أي: يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمنوا بقلوبكم. وقيل: لمن آمن بموسى وعيسى عليهما السلام أي: يا من آمن بنبي من الأنبياء آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: هم جميع الخلق أي: يا أيها الذين آمنوا يوم أخذ الميثاق حين قال: * (ألست بربكم قالوا بلى) *. وقيل: اليهود خاصة. وقيل: المشركون آمنوا باللات والعزى والأصنام والأوثان. وقيل: آمنوا على سبيل التقليد، آمنوا على سبيل الاستدلال. وقيل: آمنوا في الماضي والحاضر، آمنوا في المستقبل. ونظيره: * (فاعلم أنه لا إلاه إلائ * الله) * مع أنه كان عالما بذلك. وروي أن عبد الله بن سلام، وسلاما ابن أخته، وسلمة بن أخيه، وأسد وأسيدا ابني كعب، وثعلبة بن قيس ويامين، أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم) وقالوا: نؤمن بك وبكتابك، وموسى والتوراة، وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال عليه السلام: (بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله) فقالوا: لا نفعل، فنزلت فآمنوا كلهم. والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن بلا خلاف، والكتاب الذي أنزل من قبل المراد به جنس الكتب الإلهية، ويدل عليه قوله: آخرا. وكتبه وإن كان الخطاب لليهود والنصارى فكيف قيل لهم والكتاب الذي أنزل من قبل وهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل. وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بجميع الكتب. أو لأن إيمانهم ببعض لا يصح، لأن طريق الإيمان بالجميع واحد وهو المعجزة. وقرأ العربيان وابن كثير: نزل وأنزل بالبناء للمفعول، والباقون بالبناء للفاعل. قال الزمخشري: (فإن قلت): لم قال نزل على رسوله وأنزل من قبل؟ (قلت): لأن القرآن نزل منجما مفرقا في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله انتهى. وهذه التفرقة بين نزل وأنزل لا تصح، لأن التضعيف في نزل ليس للتكثير والتفريق، وإنما هو للتعدية، وهو مرادف للهمزة. وقد أشبعنا الرد على الزمخشري في دعواه ذلك أول سورة آل عمران.
* (ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا) * جواب الشرط ليس مترتبا على الكفر بالمجموع، بل المعنى: ومن يكفر بشيء من ذلك. وقرئ: وكتابه على الأفراد، والمراد جنس الكتب. ولما كان خير الإيمان علق بثلاثة: بالله، والرسول، والكتب، لأن الإيمان بالكتب تضمن الإيمان بالملائكة واليوم الآخر، وبولغ في ذلك لأن الملك مغيب عنا، وكذلك اليوم الآخر لم يقع وهو منتظر، فنص عليهما على سبيل التوكيد، ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه. فمن أنكر الملائكة أو القيامة فهو كافر، وقدم الكتب على الرسل على الترتيب الوجودي، لأن الملك ينزل بالكتب والرسل تتلقى الكتب من الملك. وقدم في الأمر بالإيمان الموصول على الكتاب، لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن ثم يتلقى الكتاب منه. فحيث نفى الإيمان كان على الترتيب الوجودي، وحيث أثبت كان على الترتيب اللقائي، وهو راجع للوجود في حق المؤمن.
* (إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم) * لما أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها، وذكر أن من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال، أعقب ذلك بفساد، وطريقة من كفر بعد الإيمان، وأنه لا يغفر له على ما بين. والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين، فحيث لقوا المؤمنين (قالوا آمنا) وإذا لقوا أصحابهم (قالوا إنا مستهزئون) * ولذلك جاء بعده بشر المنافقين، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه. ومعنى ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات.
(٣٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 382 383 384 385 386 387 388 389 390 391 392 ... » »»